إخواني وأخواتي طلاب الفصل
السابع.....قد تبدو الملزمة أطول مما تتوقعون، لكن هذا الطول مقصود للأسباب
التالية:
-
لنستغني بها عن العودة إلى الكتاب في أيام الامتحان.
-
لضرورة قراءة تفاصيل الموضوع المدروس للتمكن من إجابة
الأسئلة الموضوعية
مدخل
حول بعض المفاهيم النقدية والأدبية
القصة والرواية
تدل كلمة " القصة " فى معناها العام على حكاية
حدث أو أحدث وقعت بالفعل، أو من وحى الخيال، وقد تكون مرتبطة بمهاد زمنى تتتابع
خلاله، وفضاء مكاني تتحرك فيه، وقد تخلو من أحدهما أو كليهما معا، وربما تجمع فى
لغتها بين النثر والشعر.
بيد أن الكلمة حين دخلت إلى دائرة الاصطلاح الأدبي تخصصت
دلالتها، طبقا لما هو معروف، حين تنتقل كلمة ما من كلمات اللغة من الاستعمال العام
إلى الاستعمال الاصطلاحي؛ من ثَمَّ أصبحت هذه الكلمة (القصة) فى معناها الاصطلاحي
خاصة بما يكتب نثرا من الحكايات وفق أصول معينة تراعى في الأحداث والشخصيات
والزمان والمكان والصياغة اللغوية أيضا.
هل الحجم فارق حاسم بين القصة والرواية؟
وكان للحجم الذي تشغله القصة دخْل في تغيير نوعها أو
صفتها، ما بين القصيرة والطويلة، والتى تقع ما بينهما، وهى ما تسمى أحيانا بالرواية
القصيرة. والواقع أن الحجم، أو الطول والقصر، ليس هو الفارق الحاسم بين القصة
الطويلة - التى اصطلح على تسميتها بالرواية كما سنعرف بعد قليل - والقصة القصيرة،
وإنما يتعلق الفرق بينهما أساسا بالطبيعة الفنية لكل منهما؛ فالسمة المميزة للقصة
القصيرة هى الإيجاز والتركيز فى الوصف والعبارة، بحكم أنها تهدف إلى أداء انطباع
معين في نفس المتلقي، فالكاتب يقتصر في لغته على ما يبلغ به هذا الهدف، دون
استرسال أو استطراد، وبسبب ذلك يكون بناؤها أكثر إحكاما وتصميما، حتى إن بعض
النقاد ذهب في هذا الشأن إلى حد القول بأن حذف عبارة، بل كلمة يؤدي إلى الإخلال
بالعمل كله، وقد يكون هذا من قبيل المبالغة، لكنه فى مجمله يعبر عن تلك الخاصية
المشار إليها. ولا غرابة إذن حين تُقْرن القصة القصيرة، من هذه الناحية، بالقصيدة
الشعرية.
أما القصة الطويلة أو الرواية فهى أوسع مدى وأرحب أفقا
على مستوى الأحداث والشخصيات، فالأحداث تنمو وتتكاثر في مسار واحد، أو مسارات متعددة
متوازية أو متقاطعة؛ والشخصيات تتعدد، ويكون لكل منها مزاجه وتفكيره الذى يتوافق
مع شخصيات أخرى أو يتصادم معها، وهكذا.. ومن الروايات ما يكون تصويرًا لطبقة من
طبقات المجتمع من خلال عدد من الشخصيات التى تنتمي إلى هذه الطبقة، كما نرى فى بعض
روايات نجيب محفوظ التى سنتناولها فيما بعد.
هل للطول والقصر اعتبار عند تصنيف القصة إلى طويلة
وقصيرة، وما المعايير الكمية التي استند إليها النقاد في التفرقة بين القصة
والرواية؟
بوسعنا أن نقول إن للطول والقصر اعتبارهما عند تصنيف
القصة بأنها قصيرة أو طويلة؛ وفى هذا الإطار نرى نفرا من النقاد يقولون في التفرقة
بينهما إن القصة القصيرة يمكن تحديدها، من حيث:
١– زمن القراءة، بأنها تقرأ في مدى زمنى يبلغ نصف
الساعة، وقد يمتد إلى الساعتين،
٢– الحجم تبدأ من ألفي كلمة إلى اثنتى عشرة ألفا،
وأما ما زاد على ذلك إلى ثلاثين ألف كلمة، فهى رواية قصيرة، و مفهوم ذلك أن ما زاد
على الثلاثين ألفا يدخل ضمن القصة الطويلة أو الرواية، في حين أن بعضا من النقاد يرى
رأيا آخر فيذهب إلى أن الرواية تبدأ من خمسين ألفا فصاعدا؛ ولا حد لطولها، فقد
تبلغ مئات الصفحات أو الآلاف، وقد تتعدد أجزاؤها على نحو ما نرى في رواية "
الحرب والسلام " لتولستوى (1883- 1945)، ورواية " المهزلة الإنسانية
" للكاتب الفرنسي بلزاك (1799- 1850)،
وثلاثية نجيب محفوظ (1911- 2006)، وثلاثية الكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقية
(1941- )، وخماسية الكاتب السعودي عبد
الرحمن منيف (1933- 2004) المسماة " مدن الملح ".
ـ هل يعول على الطول والقصر في تناول الأعمال القصصية
نقديا؟
ومهما يكن من أمر الطول والقصر، وما يستتبعه من تصنيف
لنوع القصة، على النحو الذى بينا فإن هذا
لا يعوَّل عليه عند التناول النقدى للعمل القصصى وإنما الذى يعوَّل عليه ما تحقق
فيه من نضج الفكر وثراء الخيال، وبراعة الكاتب فى اختيار آلياته وتوظيفها. على أن
الدراسات النقدية المعاصرة نزعت منذ عقدين من الزمان أو أكثر إلى استخدام مصطلح
" السرد " للدلالة على كل ما هو من قبيل الحكْى، دون تمييز بين ما يعد
من القصة القصيرة، وما يعد من الرواية، أو المقامة، أو المقاطع الحوارية، أو
المرويات والسير الشعبية.. الخ.
متى ظهر مصطلح الرواية؟
وأعود إلى، مصطلح " الرواية " الذي قلت إنه
يستخدم بديلا عن كلمة " القصة الطويلة" وفي مقابل " القصة
القصيرة" - فأقول إن هذا المصطلح ظهر على أيدى نفر من مؤرخي الأدب الإنجليزي
حين لاحظوا أن بعض الأعمال القصصية التى ظهرت خلال النصف الأول من القرن الثامن
عشر تختلف اختلافا ملحوظا عما كان شائعا ومتوارثا من الكتابة القصصية، وتتجلى
مظاهر الاختلاف في الحدث والشخصية، والمهاد الزماني والمكاني، ولغة الأداء؛
فالأحداث لم تعد من قبيل العجائب وخوارق العادات، والشخصيات لم تعد تلك الشخصيات
الخرافية التى لا وجود لها إلا بصفاتها النوعية دون أسمائها التى تدل على أنهم
أفراد معينون من بنى الإنسان يعيشون في مجتمع معين، وامتد التغيير إلى الزمان
والمكان، فغدا زمن الأحداث معروفا، ومحددا أحيانا بالعام والشهر وأحيانا باليوم
والساعة، كذلك المكان الذي تجرى فيه الأحداث وتتحرك الشخصيات أصبح مكانا محدد
الوصف من الناحية الجغرافية بحيث يستطيع القارئ أن يتابع فيه حركة الشخصية من جزء
منه إلى جزء آخر؛ وفيما يتعلق باللغة فقد هبطت من عليائها، وتخلت عن المستوى
الرفيع الذى كانت تصاغ فيه القصة من قبل إذ كانت تكتب للخاصة وليس لعامة القراء،
وأصبحت محاكية للغة الحياة اليومية، بكل فيها من تكرار حينا وابتذال حينا آخر،
وكلمات من اللهجة المحلية طورا ثالثا.
وبالطبع لم يكن هذا التغيير على مستوى واحد، وفي كل
الأعمال القصصية التى ظهرت خلال الحقبة الزمنية المشار إليها من قبل، وإنما في عدد
قليل منها، وعلى تفاوت فيما بينها، ولم يسع مؤرخي الأدب الإنجليزي إزاء هذا
التغيير إلا أن يصفوه بأنه جديد لم يسبق إليه من قبل، وتلك هى دلالة كلمة novel كما سجلها
المعجم الانجليزي في تلك الفترة وربما قبلها، وشاعت الكلمة بعد ذلك فى المحيط
الأدبي، وما لبثت أن أصبحت بمرور الزمن مصطلحا دالا على الرواية بالمعنى الفنى
الذى أوجزنا خصائصه.
الواقعية.. مذهبا أدبيا
وإذا كانت محاكاة القصة للواقع ومشاكلتها له هي العامل
الفعال في ظهور فن الرواية، وتحول هذه الكلمة إلى مصطلح أدبي، فإن هذا الاتجاه
نفسه كان إيذانا بتحول جديد في طبيعة الإبداع الأدبي لاحت بوادره في خمسينيات
القرن التاسع عشر بعد أن اضمحلت الحركة الرومانتيكية، وتقلص ظلها، وبدت أقرب إلى
حالة مرضية يهرب فيها الشاعر من الواقع الكريه الذى يحيط به إلى عالم الأحلام
والأماني البعيدة، دون إبداء أى نوع من المقاومة والرفض، على نحو ما كانت عليه
الحال إبان ازدهارها، خلال العقود الثلاثة الأولى من ذلك القرن نفسه. هذا الاتجاه
الجديد هو ما عرف لدى النقاد باسم " الواقعيةRealim "
هل تعني واقعية العمل الأدبي تطابقه مع الواقع؟
وقد يتبادر من هذه التسمية "الواقعية" أن
العمل الأدبي يكون نسخة أخرى من الواقع، وهذا غير صحيح؛ ذلك أن الواقعية في
الرواية لا تعنى تسجيل الواقع أو نقله حرفيا، كما تنقل أداه التصوير مناظر الأشياء،
كما هي، وإنما تعنى تقديم تجربة فنية تشارك فيها ملكات الإبداع لدى الكاتب، وفي
مقدمتها الخيال، وهى تجربة تقوم على الإيهام بالواقع، وليست استنساخا له، لأنها لو
كانت كذلك لفقدت أخص خصائص الكتابة الأدبية وهى خاصية الإبداع التى تميزها عن
غيرها من ألوان الكتابة.
وهذه الواقعية تتحقق بخلق أحداث مشابهة لما يجرى في
الحياة اليومية، أو بعبارة أخرى، خلق أحداث يتقبلها الواقع ولا ينكرها لنبوِّها
عنه وكونها فوق طاقة البشر. وتتسع محاكاه الواقع والإيهام به لأن يكون العمل برمته
من وحى الخيال جملة وتفصيلا، وأن يكون مزيجا من الواقع والخيال؛ بمعنى أن الكاتب
ينشئ أحداثا وشخصيات من خياله، ويضيف إليها أحداثا وشخصيات يستمدها من عالم الواقع
لاقتضاء العمل إياها، مع شيء من التحوير أو التنقيح لها لكى تنسق مع الدور الذى
تؤديه، وبها تصبح التجربة الفنية مكتملة البناء، وفي تاريخ بعض الروائيين
الفرنسيين ما يشير إلى استحواذ شخصية معينة على تفكيره، وهو يكتب إحدى رواياته، فظل يراقب سلوكها وتصرفاتها أمدا طويلا لأنه
وجد فيها الشخصية التى يبحث عنها لعمله.
وأعتقد ان نجيب محفوظ استعان في رسم كثير من شخصيات
رواياته الواقعية بشخصيات عاشت قريبا منه، واحتك بها في أحياء الحسين والأزهر
والدراسة، وهى الأماكن التى دارت فيها أحداث تلك الروايات كما سنعرف فيما بعد.
نشير أخيرا إلى خاصية مهمة للواقعية، هي قيام العمل
الروائي أو القصصي فيها على البناء السببى للأحداث، فلا مجال للمصادفات والأحداث
العارضة، وإنما لابد للحدث السابق أن يمهد للاحق، وهذا الأخير يفضى إلى ما يليه،
وهكذا تتوالي الأحداث وفق منطق الأسباب والمسببات.
والواقع أن هذا البناء للأحداث في الرواية لا يبلغ من
الإحكام والتماسك حدا يصبح معه الاستغناء عن أى جزء منها مؤديا إلى اهتزاز العمل
الروائي والإخلال به، وإنما يتصف بقدر من المرونة التى تحتمل مثل هذا الاستغناء
دون أن يتأثر العمل في جملته، وبخاصة مع الأحداث الهامشية أو الهينة الشأن التى
تبدو مكملة لعملية الإيهام بالواقع،وليست بذات تأثير في الدلالات العامة للعمل،
وفي هذا يختلف بناء الرواية عن بناء القصة القصيرة كما ذكرنا من قبل.
ما الواقعية الطبيعية ومن رائدها؟
وفي سياق الحديث عن الواقعية تجدر الإشارة إلى ما أضافه
الكاتب الفرنسي الشهير إميل زولا (1840- 1902) من الاعتماد على مكتشفات العلم
الحديث ومنجزاته منها في رواياته، وبتأثير هذه
النزعة ظهر ما يعرف في الدراسات الأدبية والنقدية باسم الطبيعية Naturalism، واستخدم مرادفا
للواقعية Realism أحيانا،
وبديلا عنها أحيانا أخرى.
وأيا كانت التسمية التى تطلق على هذا المنحى من الإبداع
الأدبي فإنه وليد فلسفة مغايرة لفلسفة المذهب الرومانتيكي؛ خلاصتها أن تعرية
الواقع، وكشف ما يجرى فيه من مظاهر الانحراف والفساد يوجه الأنظار إليها، ويحض
الجميع على التخلص منها وتطهير المجتمع من شرورها، فتشخيص الداء تشخيصا صحيحا هو
السبيل الحق إلى علاجه واستئصال شأفته. وهذا يفسر ما نراه في الروايات الواقعية من
تصوير مظاهر القبح والرذيلة، وعوامل الانحلال والتفسخ الاجتماعي.
ما المذاهب الأدبية والنقدية التي أتت بعد الواقعية؟
وعلى الرغم من توافق الواقعية أو الطبيعية مع الفطرة
الغالبة على السواد الأعظم من الناس فإن حركة الإبداع الأدبي لم تتوقف عندها بل
أضافت إليها اتجاها أو اتجاهات أخرى، لعل من أبرزها الرمزية التى تعدُّ ردَّ فعل
للواقعية بعد أن بدا لكثيرين من الأدباء والشعراء أن منهجها في الإبداع الأدبي غدا
بضاعة مزجاة، وأن بناء العمل بناء رمزيا يمنح المتلقي فرصة أكبر لتأويله والتفاعل
معه.
هل يمكن أن يجمع العمل الأدبي بين خيوط مذهبية متعددة؟
ولابد من القول
أخيرا بأن العمل الروائي والأدبي بعامة قد يجمع بين خيوط مذهبية متعددة تعمل معا
في تآلف وانسجام إلى الحد الذي يصعب معه تصنيف العمل تحت أى مذهب من المذاهب
الأدبية المتعارف عليها.
دعاء الكروان
لطه حسين
بين واقعية الحدث ومثالية الرؤية وفنية الأداء
شاعرية العنوان
وسبب اختياره
يبدو عنوان
الرواية عنوانًا شاعريا يوحى بالرقة والوداعة والجمال، فالكروان طائر معروف بحسن
الصوت، يجوب سماوات مصر ليلا على أطراف الصحراء بالقرب من الأراضى الزراعية، بعد
أن يهجع الأحياء، ويعم السكون. عندئذ ينطلق فى الفضاء، مرسلا صوته حينًا بعد حين،
فيثير فى النفس معانى وأحاسيس ""يتجاوب فيها – كما يقول العقاد – تقديس
المصلِّى القانت، وحَدَب الحارس الأمين، وروح الطفولة، ومناجاة الخطر المقبول،
وهُيام الروح المنهوم بالحياة والجمال"(*).
ولا غرو إذن أن يستلهمه العقاد (1889-1964م)
عددًا من قصائده الشعرية، بل أن يسمى ديوانًا كاملاً من دواوينه باسمه، وهو
"هدية الكروان"، وأن يسبر طه حسين (1889-1973م) على الدرب نفسه، فيسمى
أحد أعماله الأدبية المبكرة باسم الكروان كذلك وهو العمل الذى نحن بصدده، والذى
صدر عام 1934، مصدِّرا له بعبارات تحمل معنى الإشادة بعمل العقاد، مخاطبًا إياه فى
تواضع الكبار : "سيدى الأستاذ أنت أقمت للكروان ديوانًا فخمًا فى الشعر
العربى الحديث، وأنا أهدى إليك هذه القصة، تحية خالصة من صديق مخلص".
ويقترن صوت الكروان هنا، أو "دعاؤه"
الذى يأتى ذكره فى تضاعيف الحدث الروائى، بمشاعر متنوعة، يختلط فيها الاعتراف بحبه
والاعتزاز به، بالأسى والحزن، بالحقد والكراهية، بالذكرى المؤلمة، بالرغبة فى
الانتقام، ويكاد يمثل "لازمة" غير منتظمة، تتردد من حين إلى آخر، حيث
يخاطبه الراوى أو يشير إليه، مستثيرًا من خلاله بعضًا من الأحداث أو المعانى
المشار إليها.
ما النهج الذي
اتبعه طه حسين في بناء الرواية؟
ولم يشأ طه حسين أن يتبع – فى تشكيل نقطة البدء
فى الرواية – النهج التقليدى الذى يقوم على رصد الأحداث من بدايتها، وإنما عمد إلى
مواجهة القارئ بلقطتين متباينتين – إذا استخدمنا لغة السينما – أولاهما تمثل
مشهدًا من الحدث الروائى، وقد شارف على النهاية، وفيه تستعيد "آمنة"
(الراوى) ما دار بينها، وبين مخدومها المهندس الشاب، من حوار
أما اللقطة الثانية فهى ليست حدثا بالمعنى
الصحيح، وإنما هى مناجاة أجراها الكاتب على لسان آمنة أيضًا لطائر الكروان،
وجاءت فى أعقاب المشهد السابق مباشرة، دون فاصل أو تنبيه، وإنما تغير السياق فجأة،
وتحول إلى تلك المناجاة، ومنها نفهم أن أحداث الرواية ليست إلا استدعاء لما قع منذ
سنوات بعيدة، قد تبلغ العشرين عامًا أو تزيد ! ومن ثم تكون الرواية كلها قد جاءت
فى قالب "الاسترجاع" flash back فها هى ذى "آمنة" قد سكنت مشاعرها الغضبى بعد
معاناة ومكابدة، واستقر بها المقام أخيرًا بين يدى من جاءت للانتقام منه. إنها
الآن تجلس فى غرفتها فى الهزيع الأخير من الليل، وقد تناهى إلى سمعها صوت الكروان
قادمًا من بعيد، فاستثار لديها تلك الذكريات الكامنة فى أعماقها، وهُرِعت إلى
مناجاته :
"لبيك لبيك"(*)
أيها الطائر العزيز ! ما أحب صوتك إلى نفسى إذا جثم الليل، وهدأ الكون ونامت
الحياة وانطلقت الأرواح فى هذا السكون آمنة لا تخاف، صامتة.0 لا تسمع !
إن صوتك إذن لأشبه الاشياء بأن يكون صوتًا لروح
من هذه الأرواح، ليذكِّرنى روح هذه الأخت التى شهدتَّ مصرعها معى، فى تلك الليلة
المهيبة الرهيبة، وفى ذلك الفضاء العريض الذى لم يكن من سبيل إلى أن يُسمع الصوت
فيه مهما يرتفع، ولا أن يجيب فيه المغيث لمن استغاث.
"لبيك لبيك" أيها الطائر العزيز !
ادنُ منى إن كان من أخلاقك الدنو، وأْنَس إلىَّ إن كان من خصالك الأنس إلى الناس،
واسمع منى وتحدث إلىّ، وهلمَّ نذكر تلك المأساة التى شهدناها معًا، وعجزنا عن أن
ندفعها، أو نصرف شرها عن تلك النفس الزكية التى أزهقت، وعن هذا الدم البرىء الذى
سفُك.
فلم نزد حينئذ على أن بعثنا صيحات، ترددت فى ذلك
الفضاء العريض، لكنها لم تبلغ أذنًا، ولم تصل إلى قلب، وإنما صعدت إلى السماء، على
حين هوى ذلك الجسم الجميل الممزق فى تلك الحفرة التى أُعدت له إعدادا، ثم هيل
التراب، وسوُيِّت الأرض، وأنت تدعو ولا من يستجيب، وأنا أستغيث ولا من يغيث،
وامرأة متقدمة فى السن قد انتحت ناحية، وجلست تذرف دمعها فى صمت عميق، ورجل متقدم
فى السن قد قام غير بعيد يسوىِّ الأرض، ويصب عليها الماء، يردها كما كانت، ثم ينتحى
قليلا، ويزيل عن جسمه وثيابه آثار الدم، والتراب، ثم يرتفع صوته آمرًا، أن هلمَّ،
لقد آن لنا أن نرتحل"([1])
.
ولن نتوقف أمام ما تتسم به المناجاة التى
اقتبسنا جزًا كبيرًا منها من سلاسة البيان، وصفاء العبارة على نحو يبعث على الشك
فى صدور مثلها عن الراوى "آمنة" فذلك حديث سيأتى بيانه فيما بعد. وإنما
نلتفت إلى شىء آخر، هو أنها أضاءت – بتركيز شديد – جذور القضية التى تطرحها
الرواية، وإذ يتهيأ القارئ لالتقاط الخيط من بدايته يلمح "آمنة"
تقارن فى ذاكرتها، بصوت مسموع، بين حاضرها الناعم المترف، وماضيها البائس الحزين،
وشتان ما بينهما !.
تحولات السرد
بين الضمير الأول والضمير الثالث :
ولما كانت "آمنة" هى الراوى الذى
اعتمد عليه الكاتب فى تقديم أحداث روايته، وكانت فى الوقت نفسه إحدى الشخصيات التى
شاركت فى صنع تلك الأحداث، فمن الطبيعى إذن أن يأتى أسلوب العرض بصيغة
"الضمير الأول"، ضمير المتكلم , كما يبدو ذلك واضحًا من المناجاة
السابقة.0 إلا أن طه حسين لم يقتصر، على هذا الأسلوب، وإنما مزج بينه وبين
"الضمير الثالث"، ضمير الغائب، فنرى "آمنة" فى بعض المواطن،
تختفى من السياق، ليتولى عملية السرد راو آخر أوسع علمًا بخبايا الأحداث، وأكثر
نفاذًا إلى أعماق الشخصيات وبواطنها0 ثم لا يلبث أن يعود السرد إلى الأسلوب الأول،
إلى أن يتم التحول مرة أخرى، وكل ذلك يتم دون أدنى إشارة أو تنبيه، فبينما تقول
"آمنة" فى مطلع الرواية – على سبيل المثال - : "إنى لأتحدث إلى
نفسى حديثًا ما كان يمكن، ولا ينتظر أن تتحدث به إلى نفسها، تلك الفتاة التى
يسمونها "آمنة" والتى تُسمى الآن "سعاد" لأنه جميل يلائم
المألوف من حسن الاختيار، والتظرف فى الأسماء" – ينعطف السياق فجأة إلى صيغة
الغياب، فنقرأ قول الكاتب: "لقد كانت "آمنة" تلك فتاة بدوية انحدرت
بها وبأختها امرأة من أهل البادية، أو من أهل هذا الريف المصرى الذى يشبه البادية؛
لأنه منبث فى أطرافها الخصبة مما يلى الصحراء الغربية، أو مما يلى هذه الهضبات
التى يسميها أهل مصر الوسطى بالجبل الغربى"([2]).
وعلى لسان
الراوى بضمير الغائب أيضًا، تأتى الإشارة إلى شقاء هذه الأسرة، وتعاستها، بسبب
انحلال الأب ومجونه، وشيوع مغامراته النسائية فى القرية والقرى المجاورة، حتى أحفظ
ذلك عليه كثيرًا من الأهالى، فتربص به بعضهم وقتلوه. حينئذ بدأت محنة الأسرة، فقد
خشيت زوجه مغبة ذلك الحدث عليها، وعلى ابنتيها، فقررت النزوح بهما من القرية، أو
أرغمت على ذلك من قِبَل أسرتها.
وبعد الارتحال
والتنقل من قرية إلى قرية، حللن جميعًا فى طرف بعيد من المدينة الواسعة، ولجأت
الأم إلى شيخ تلك الناحية، الذى ضيفَّها وابنتيها يومًا، ثم استأجر لهن حجرة ضيقة
حقيرة مشيدة من الطين، ريثما تجد لها ولابنتيها عملا فى بعض بيوت ذوى اليسار.
عند هذه النقطة يعود السرد مرة أخرى إلى الأسلوب
الذى بدأ به، وهو الضمير الأول، أو ضمير المتكلم، على نحو ما نرى فى الفقرة
التالية : "ومضت أيام قليلة ولكنها ثقيلة. كانت أُمُّنا تدور فيها بنفسها،
وبنا على البيوت تَعْرِض نفسها، وتعْرِضنا للخدمة، كما تُعْرض الإماء على
السادة"([3])
ويمضى السياق على هذا النسق إلى أن يتحول مرة أخرى فى موضع لاحق، وهكذا يتأرجح
السرد، على امتداد العمل الروائى كله، بين الأسلوبين.
ولا غضاضة إذن
مع تحول السرد إلى ضمير الغائب أن تصبح "آمنة" نفسها، موضوعا
يصفه الراوى الآخر، كما فى المشهد الذى أخذ يرصد فيه رحلة هربها من بيت الأسرة
بالقرية، والعودة إلى بيت المأمور بالمدينة مرة أخرى، وهو البيت الذى كانت تعمل
فيه قبل ذلك. إذ نرى السياق الروائى يجرى على النحو التالى : "وإنى لأراها فى
طريقها نحو الشرق، فيمتلئ قلبى رحمة لها، وإعجابا بها، وخوفا عليها. وأى قلب لا
يرحم فتاة غِرَّة، لم تكد تتجاوز سن الصبا، وقد قذفت بها الأحداث فى لجة الحياة
الممتلئة بالأخطار والأهوال، وهى وحيدة ليس لها عون ؟([4]).
ويلتفت إليها
مخاطبا إياها بقوله :
"لك الله أيتها الفتاة الناشئة ! إلى أين
تذهبين ؟ ألم تفكرى فى هذه الكوارث والخطوب التى تضمرها الحياة للضعفاء والبائسين
؟
ثم يعود الحديث عنها راويا بضمير الغائب فيقول :
"لم تفكر "آمنة" فى شىء من هذا
حين انطلقت مع الصباح من بيت أسرتها كما ينطلق السهم، ومضت أمامها مندفعة، ولا
يكاد يتقدم النهار نحو العصر، حتى تكون قد بلغت مأمنها، وأفلتت من طلب الطالبين،
وانتهت إلى قرية من القرى، فمالت إليها تريد أن تبلغ عند أهلها حظًّا من راحة،
وشيئًا من طعام، وأن تنفق عندهم الليل"([5])
.
عند هذه النقطة يغيب الراوى بضمير الغائب، الذى
استمر ممسكًا بزمام السرد، طوال ثلاث صفحات، ليظهر الراوى الأساسى الذى يتحدث
بضمير المتكلم :
"نعم إنى لأرانى فى هذه الطريق وحيدة شريدة،
لا أملك إلا نفسى الضعيفة البائسة، وإلا جسمى النحيل الضئيل.0"([6]).
"كنت أطمئن إلى أنى لن أرى أمى، ولن أسمع
صوتها، ولن أرى أهل الدار، وأشاركهم فى شىء، ولن ألقى ذلك الرجل المجرم، ذا النفس
الفاجرة، والقلب الغليظ.00"([7])
.
وقد يمكن القول بأن الراوى بضمير الغائب إن هو
إلا "آمنة" نفسها أيضًا، وقد جردت من نفسها شخصية أخرى، تباشر
الوصف والحكى. وهذا نهج مألوف عند طه حسين، واستخدمه قبل ذلك فى سيرته الذاتية
(الأيام)، حين فصل ذاته التى يترجم لها، عن ذاته "كاتبًا"، وراح يتحدث
عن الأولى بضمير الغائب، وكأنهما شخصيتان منفصلتان لا علاقة بينهما.
وأيا ما كان التفسير الوارد لتحول السرد من
الضمير الأول ، إلى الضمير الثالث والعكس، فمما لا شك فيه أنه يمثل ضربا من
التنويع فى أسلوب العرض الروائى، يخفف من الرتابة الناجمة عن استخدام أسلوب واحد0
وبعيدًا عن التحول فى أسلوب السرد، فقد انتهى
المطاف بالأم وابنتيها، إلى الخدمة فى بعض بيوت المدينة؛ إلا أن "آمنة"
كانت أسعد الثلاث حظًا، فقد عملت فى بيت مأمور المركز، وأتيح لها أن تقضى أغلب
الوقت مع ابنته "خديجة" التى كانت تقاربها فى السن، وما أكثر ما كانت
تشاركها اللعب والدرس؛ فى حين عملت شقيقتها الصغرى "هنادى" فى
بيت مهندس الرى، وهو شاب أنيق على جانب كبير من الوسامة، ويعيش وحيدًا فى دار
واسعة، تحيط به حديقة جميلة، ولا يعيش معه فيه إلا خادم ريفى، يحرس الدار، ويُعنى
بالحديقة وكان عمل "هنادى"
تنظيف البيت، والعناية بمتاع صاحبه ! أما الطعام فكان يأتيه غزيرًا موفورًا من
مطعم المدينة، فيصيب منه القليل، ويترك أكثره لخادمَيه.
وقد تركت هذه الحياة المرفهة أثرها على
"هنادى" فشب عودها، واستدار استدارة حسنة، واكتسب قدرًا كبيرًا من
النضارة والبهاء،؛ فكان ما كان بينها، وبين المهندس الشاب، مما لا يفصح عنه السياق
الروائى، ويذكر تفصيلاته، وإنما جرى طيُّه وإضماره، والاكتفاء بالتلميح إليه على
لسان الراوى؛ إذ تصف "آمنة" أمارات الحزن والأسى، التى طالعتها فى وجهى
أمها وأختها، ذات ليلة من تلك الليالى، اللاتى كن يلتقين فيها آخر الأسبوع، فى
حجرتهن المستأجرة التى سبقت الإشارة إليها. وما لبث أن قرع سمعها فى تلك الليلة
أمر حاسم من أمها، بضرورة الرحيل عن تلك المدينة المشئومة. عندئذ أدركت أن هناك
أمرًا خطيرًا قد وقع وفى الصباح انطلقت مع أمها، وأختها من المدينة، حزينات كاسفات.
فلما أقبل الليل، وقد بلغن إحدى القرى فى الطريق، حللن الرحال، ونزلن ضيفًا على
عمدتها، وأقمن فى داره أيامًا.
تكثيف الإحساس
بالمطاردة والخوف من خلال الدلالة الرمزية لمشهد سقوط الحمامة، ومشاهد القتل:
وفى أثناء تلك الأيام الكئيبة التى عاشتها
الأسرة ضيفًا على العمدة، كانت الأم تعانى حالة من الارتباك والاضطراب أطبقت عليها،
وحينما كانت تفكر جاهدة، فى مخرج من المحنة التى أرهقتها، تراءى مشهد فى الصباح
على سطح البيت، الذى كانت الأسرة تأوى إليه ليلاً عند النوم. ويتمثل المشهد فى
ظهور الفتاتين، وقد أغرقتا فى النوم، وعانقت كلتاهما الأخرى، بينما ضوء الشمس الذى
ارتفع فى الضحى قد أخذ يغمرهما، وأخذت الدواجن تضطرب من حولهما، وتتقافز على ما
نُثر لهن من حب، وتتزاحم على الماء الذى قدم لهن فى الأوانى اللاتى تشرب منها.
وما هى إلا لحظات حتى تستيقظ "آمنة"
من نومها العميق الذى ضمها وأختها، وطفقت هى تستكمل وصف المشهد، الذى بدأه الراوى
قبلاً بضمير الغائب، فتقول : "000 وإذا أنا أتلقى الحياة دون أن أتمثل الحياة،
وأستقبل النشاط دون أن أشعر بالنشاط،، ثم أحس كأن شيئًا خفيفًا رشيقًا، قد مس
كتفى مسّا يسيرًا، فأنتبه، ولا أكاد أفتح عينى، وآتى بعض الحركة، حتى أرى حمامة
مذعورة، قد ارتفعت غير مسرفة فى الارتفاع، ولم تكد تطير حتى وقعت، فى رشاقة وظَرف
غير بعيد، فأستوى جالسة، وألقى نظرة إلى أختى، وقد ثاب إلىّ حديثنا كله مرة واحدة،
فملأ قلبى إشفاقًا وحبًّا وحزنًا"([8])
وكانت الأم قد انتهت إلى قرار يقضى بحتمية
العودة مع ابنتيها إلى القرية التى نشأت فيها، وأرسلت رسولا إلى أخيها
"ناصر" يبلغه بضرورة حضوره، إلى حيث يُقمن عند العمدة، ليصحبهن إلى
القرية، وقدم "ناصر" ومعه جملان محملان بأثقال من الهدايا للعمدة،
تقديرًا لفضله ومروءته، وفى صباح اليوم التالى مضى الركب مسافرًا لعدة أيام،
ونزلوا جميعًا ضيفًًا عند عمدة إحدى القرى، على الطريق، عند العصر، فلما حل الليل استأنفوا
المسير، وعند مكان ما، انعطف "ناصر" بالجملين متوغلاً فى الصحراء
قليلاً، ثم أناخهما، وبصوت عنيف غليظ، طلب إلى البنتين النزول من فوق الجمل الذى
تمتطيانه، وتصور آمنة المشهد بأسلوب تغلب عليه صيغة المضارع الذى يدل على استحضار
الحدث وبعث الحياة فيه، وكأنما يجرى أمام القارئ فى التوِّ واللحظة، فهو يشاهده،
ويراه رأى العين. تقول :
"وها نحن أولاء ننزل مضطربات، ونسعى
متعثرات، وهذه أمنا تريد أن تسأل فيم إناخة الجملين، وفيم النزول فى غير منزل، وها
أنا هذه أريد أن أقول شيئًا، ولكنى لا أكاد أدير لسانى فى فمى، ولا أكاد أستوعب ما
كانت أمنا تقول، إنما هى صيحة متكررة، مروعة تنبعث فى الجو، وجسم ثقيل متهالك،
يسقط على الأرض، وإذا أختى قد صرعت، وإذا خالنا هو الذى صرعها؛ لأنه أغمد خنجره فى
صدرها، ونحن عاكفتان على هذا الجسم الصريع يضطرب، ويتخبط، ويتفجر منه الدم فى قوة،
كما يتفجر الماء من الينبوع، ونحن عاكفتان فى ذهول وغفلة وبله، لم نفهم شيئًا، ولم
نقدر شيئًا، ولم ننتظر شيئًا، وإنما أُخِذنا على غرة أخذًا، واختُطفت هنادى من
بيننا اختطافًا، وجسمها يضطرب ويتخبط، ودمها يتقجر، ولسانها يضطرب ببعض الحديث فى
فمها، ثم يهدأ الجسم المضطرب، ويسكن اللسان المتحرك، ويخف تفجر الدم، ويمتلئ الجو
حولنا بهذا السكون الأليم، سكون الموت. ونحن فيما نحن فيه من ذهول وغفلة وبَلَه،
وخالنا قائم أمامنا كالشيطان، إلا أنه قد أخذه الذهول كما أخذنا"([9]).
والدلالة
الرمزية لسقوط الحمامة الرشيقة، بعد ارتفاعها
قليلاً عن الأرض، كما جاء ذلك فى النص المقتبس من قبل، تبدو فى غاية الوضوح، وإن
كان سقوط المرموز إليه سقوطًا قاتلا على
أنه لا يخفى علينا من البداية بساطة الرمز وسذاجته، وهو أمر متوقع، وليس لنا أن
نطالب طه حسين بأكثر منه، فالمستوى الفنى للإبداع القصصى فى ذلك الوقت لم يكن قد
بلغ مرحلة من التطور والنضج يتيح التعمق فى استخدام الرموز وتوظيفها.
وإلى جانب الحدث الرمزى السابق بدلالته
المشار إليه، سعى الكاتب إلى بث بعض أنباء القتل فى السياق الروائى، قبيل مقتل
"هنادى"، ففى ذات ليلة من الليالى، التى أمضتها النسوة الثلاث فى
دار العمدة، قطع سكون الليل ضجيج واضطراب، استيقظ له من فى الدار من أهلها وضيوفهم،
وركبهم الفزع، وأخذوا يتساءلون فيما بينهم عما حدث، واجتمع عدد من النسوة اللاتى
كن بالدار فى ذلك الوقت، يتناقلن الأخبار والشائعات، وبدت "زهرة"
بينهن ذاهلة عن نفسها، تسألها ابنتها "آمنة" فلا تجيب، وكأنما غابت عن
الوعى فى انتظار حادث قتل مماثل، يفتك بفلذة كبدها. وأخيرًا أجابتها فى صوت هادئ
حزين : "زعموا أن رجلاً قد قُتل قريبًا من القرية، يقال له عبد الجليل، وقد
جاء الصريخ، إلى العمدة، فأيقظ رجاله، وهو يستحثهم لالتماس القاتل.
وانقضى ما بقى
من الليل، والحاضرون يرددون أخبارًا لا تنتهى، عن القتل فى المدن والقرى وفى
الحقول، وعلى الطريق العامة. وفى تلك الليلة نفسها، تناهى إلى سمع الأم وابنتيها،
نبأ مصرع ثلاث من الفتيات، لم يسمعن به من قبل، وإن كان قد سرى بين الناس فى المدينة،
منذ عام وبعض عام. فقد خرج هؤلاء الفتيات "أمينة" و"مرتا"
و"ملزمة" من المدينة، أو أخرجن منها، ولم يعدن إليها، ولم تعد
إليها أسرهن، وإنما عادت أحاديثهن الفاجعة؛ فأمينة احتُزَّ رأسها احتزازًا،
و"مرتا" شق صدرها، و"ملزمة" دفنت حية، ولقيت حتفها،
مختنقة فى التراب.
وأخذت صور
مصارع الفتيات الثلاث تخايل "آمنة" فى تلك اللية، وتثير لديها مشاعر
الرعب والفزع، وكأنما يهجس خاطرها بمثل هذا المصير البشع لشقيقتها، فترتاع لذلك ارتياعًا، ويهلع له قلبها خوفًا،
وتسارع إلى مناجاة شقيقتها لتذهب عنها الروع، وتطرد أشباح الخوف التى تتراءى لها.
ويحار المتلقى
أمام هذه المناجاة، أهى مناجاة خيالية، جرت بعد أن استدعت صورة أختها، وتمثلتها
قائمة تخاطبها ؟ أم أنها مناجاة حية فى مواجهة هنادى، وخطابها المباشر؛ سعيًا إلى
تبديد مشاعر الخوف عنها، وإنزال الأمن والسكينة فى قلبها ؟ كلا التفسيرين وارد، وله ما يسانده ويؤديه؛ ففى الجانب الأول نرى
"آمنة" بعد أن تطمئن أختها، بأن أهلها فى القرية يحبونها وتحبهم، وأنها
ستجد عندهم من الحماية والأمن، ما تفتقده فى حياة الغربة والعمل فى البيوت، تعقب
على ذلك بقولها : "ولكنها لا تسمع لى، أو لا تفهم عنى".
وفى الجانب الثانى تبرز "هنادى" نفسها
فى قلب المشهد، لتقول بعد أن سمعت عن مصارع الفتيات الثلاث : "ما الذى
ينتظرنى من ألوان الموت هذه؟ ثم تختفى، ليعود السرد بلسان "آمنة" مرة
أخرى، بما يدعم واقعية المناجاة؛ إذ تقول : "وأنا أرد عنها هذه الخواطر جاهدة،
أتلطف حينا حتى أقبلها وأداعبها، ثم أشتد فى التلطف بها، حتى أستعطفها بما أسفح من
دموع، ثم أعنف وأغلو فى العنف، وأنذرها بأنى سأقص خوفها كله على أمنا وخالنا،
وسأستجير لنفسى منهما، أو سأمتنع عليهما فلا أتبعهما، ولا أدعها تتبعهما، وسأستجير
لنفسى ولها منهما، بهذا الرجل الكريم الذى نحن ضيف عنده، ولكنها إذا سمعت منى ذلك
ثابت إلى نفسها، وردتنى إلى الأناة والمهل، وأظهرت التجلد والصبر، وتكلفت ثقة، لا
تلبث أن تضطرب، واطمئنانًا لا يلبث أن يزول"([10]).
توظيف النبوءة
:
وكما أفاد طه
حسين فى بناء روايته، من الرمز الجزئى السابق، على بساطته وقرب دلالته كما ذكرنا، أفاد
أيضًا من أحد الموروثات الشعبية القديمة، ونعنى به "النبوءة" أو
استشراف الغيب، بأسلوب "ضرب الودع"، وجرت تلك العملية، فى أثناء تلك
الفترة التى قضتها الأم وابنتاها فى دار العمدة؛ إذ التقين هناك، بامرأة تدعى
"نفيسة" تحترف هذه المهنة، وقد عرضت عليها الأم ابنتها
"هنادى" بما تبدو عليه من شحوب وهزال، وما يعتريها من ميل إلى الانقباض
والحزن، فنثرت المرأة حبّات "ودَعها" وأطالت النظر فيه، ثم رفعت رأسها،
وقالت للفتاة : "إن أمرك يا ابنتى
لعجيب، إنى أراك بين اثنين : أحدهما يحبك وسيؤذيك، والآخر آذاك وسيحبك"([11])
وفى فجر الليلة
الأخيرة فى دار العمدة، كانت "هنادى" تستعيد هذه النبوءة مع أختها
"آمنة" فلما أعربت لها الأخيرة عن رفضها وإنكارها، وأنها تراها ضربًا من
السخف الذى لا معنى له، ردت عليها "هنادى" بقولها : "فإنى أرى هذين الرجلين رأى
العين، وأعرفهما كما أعرفك، وسترينهما وستعرفينهما، وستبغضين أحدهما أشد البعض،
وستحبين الآخر حبًا كثيرًا".
والنبوءة تحمل
نذيرًا بالتشاؤم، وهى من هذه الناحية تتجاوب مع مناخ القلق والاضطراب، الذى يسيطر
على مشاعر الأم وابنتيها، خلال تلك الفترة، اللاتى أخذن يرتقبن فيها مستقبلا
مجهولا، ليس يخلو من شر؛ وفى الوقت نفسه تصب فى المجرى الشعورى الذى يصب فيه الرمز،
إلا أن الكاتب من ناحية أخرى قد أطفأ وهج تلك النبوءة، ونال من تأثيرها الفاعل،
حين جعل "هنادى" تفطن إلى تأويلها، بما يتفق مع ما سوف يجرى به تيار
الأحداث بعد ذلك.
هل كان قتل
هنادي نهاية هذه الرواية؟
ولم يكن قتل
"هنادى" ودفن عارها معها، هو الفصل الأخير فى المحنة، ولكنه كان مفجرًا
لطور من الصراع، محوره "آمنة" التى أصيبت بصدمة بالغة، عندما
شهدت مصرع أختها، فغابت عن الوعى حينًا من الزمن، فلما أفاقت من غشيتها، وجدت
نفسها طريحة الفراش، فى بيت خشن حقير، هو البيت الذى نشأت فيه فى القرية، وظلت فى
حال من الذهول والوجوم أيامًا وأسابيع، وفقدت شهيتها للطعام، حتى أصيبت بالضعف
والهزال.
وكانت قد طوت
صدرها غيظًا وحقدًا على رجلين، رأت أنهما هما اللذان قتلا أختها؛ أحدهما خالها
"ناصر" الذى قتلها قتلا حسيا، بطعنه إياها بخنجره كما ذكرنا من قبل،
والآخر المهندس الشاب، وقد قتلها قتلا معنويا، حين دنس عرضها؛ لذا كان الرجلان
جديرين بأن تثأر منهما، شفاء لما فى صدرها من مشاعر البغض والانتقام. فلما استردت
عافيتها شيئًا فشيئًا، طفقت تسأل عن خالها "ناصر"، وهى تتوقع أن يكون قد
عوقب على جريمته البشعة، وكانت المفاجأة المذهلة أنه قد سافر إلى الواحات، فى رحلة
تجارية بصحبة عدد من رفاقه، من أهل القرية والقرى المجاورة، وأنهم سيعودون بعد أيام،
لتبتهج القرية بعودتهم. ولما لم تكن تطيق صبرًا أن يقع نظرها عليه مرة أخرى، وأن
تراه مستبشرًا سعيدًا، فقد قر عزمها على الهرب خُفية من القرية، تحت جُنح الظلام،
حتى لا يعرف أحد طريقها.
ولم يكن أمامها
مكان تلوذ به، سوى البيت الذى عملت فيه خادمًا من قبل، ردحًا من الزمن، وهو بيت
مأمور المركز، فهبطت المدينة، وقصدت إليه من فورها، وأحسن أهل البيت استقبالها،
كأن لم تغب عنهم شهورًا طويلة. وسرعان ما اتخذت مكانها السابق من خديجة. وأخذ شبح
الماضى الكئيب ينزاح رويدًا رويدًا، فى دائرة النسيان، إلا شخصين اثنين ظلا شاخصين
فى ذاكرتها؛ أحدهما أختها "هنادى" التى تفجر من صدرها الدم بمرأى
ومسمع منها، والآخر المهندس الشاب الذى أغواها، وأفضى بها إلى هذا المصير الفاجع.
وراحت تفكر فى
أمر ذلك الشاب، الذى فتن أختها وسلب عقلها، واستقر رأيها بعد تفكير طويل، على
ضرورة الوصول إليه بأى طريق، ولقائه وجها لوجه، والحديث إليه والسماع منه، ومما
هون عليها ذلك قرب بيته الشديد، من بيت المأمور، فأخذت تراقبه من نافذة غرفتها
الخاصة، فى غدوه ورواحه، ثم وثقت علاقتها بالبستانى، وبالخادم "سكينة"
التى حلت محل هنادى. لكن ذلك كله لم يكن ليجدى، ما دامت لا تلتحق بخدمته مباشرة،
وتقيم معه إقامة دائمة.
وكان علمها
بنبأ اعتزامه خطبة "خديجة" فرصة، اغتنمتها للكيد له، إذ كشفت بحيلة ذكية،
للمأمور وزوجه، حقيقة سلوكه الشائن، فاعتذرا له عن عدم إتمام الخطبة، ورأت
"آمنة" حينئذ أن بقاءها فى بيت المأمور لن يكون مرغوبًا فيه، وبخاصة من
قبل سيدتها خديجة، فقررت الرحيل عن البيت، برضا أهله واستئذانهم، ويممت وجهها شطر
امرأة تدعى "زنوبة" تعمل فى مجال إلحاق الخدم ببيوت الأغنياء من
أهل المدينة، وكانت "آمنة" قد التقت بها فى دار العمدة، مع نفيسة
"ضاربة الودع"، التى سلفت الإشارة إليها.
وقامت زنوبة
بإلحاقها بخدمة أحد البيوت، ومكثت فيه شهورًا، لم يطب لها المقام فيه، بمثل ما طاب
لها فى بيت المأمور، ثم كان حبها للقراءة، واختلاسها الوقت للاطلاع على بعض ما حمل
أبناء صاحب البيت معهم من القاهرة، من كتب جديدة، سببًا فى إقصائها عن البيت، بعد
أن ضبطها الرجل تقرأ فى كتاب "ألف ليلة وليلة" "الذى أخفاه
أبناؤه عنه، وراحوا يتبادلونه سرًا فيما بينهم" وهكذا عادت "آمنة"
مرة أخرى إلى "زنوبة" تطلب عملاً فى بيت آخر :
وكان قد حدث
قبل واقعة الطرد هذه، أن تم نقل المأمور من المدينة إلى مدينة أخرى بعيدة، فحزنت
لذلك حزنًا شديًا أول الأمر، ثم ما لبثت أن وجدت فيه منفذًا إلى تحقيق مأربها، فقد
خلا لها الجو فى المدينة، وأصبح من الممكن أن تتصل الأسباب بينها، وبين المهندس
الشاب، فكان ذلك الطرد حلاً لمشكلة كانت تواجهها، وهى تركها لذلك البيت الذى لم
يسئ أصحابه إليها. إلا أن مشكلة أخرى كانت تقف فى طريقها، وهى وجود
"سكينة" لدى المهندس، وهى لا تفكر فى ترك عملها عنده، ولم يحدث منها ما
يحمله على إخراجها والاستغناء عنها، وكان ضمير "آمنة" يؤنبها كلما فكرت
فى حيلة لطردها. إلا أنها خضعت فى النهاية لنوازع شريرة، فأغرت البستانى ببعض
المال، حتى سعى لدى سيده فأخرج سكينة، وغدا مكانها فى البيت شاغرًا , وهكذا تهيأت
الظروف أمام "آمنة" للعمل فى بيت المهندس.
وكانت الفرصة
مواتية حينئذ لتدخل "زنوبة" التى كانت تجهل هذا التدبير، فقدمت "آمنة"
إلى المهندس لتحل محل سكينة.
وما كادت
"آمنة" تستقر فى مكانها الجديد، حتى بدأ المهندس الشاب مناوشاته
الغرامية معها، موقنًا بأنه سرعان ما سوف تنجذب إليه، وتذعن إليه، لما يطلب منها،
شأنها فى ذلك شأن غيرها من الفتيات اللاتى سبقنها فى خدمته، لكن خاب تقديره، فقد
امتنعت عليه، وباءت محاولاته المتعددة معها بالفشل، وآذن ذلك بتحول نظرته إليها
شيئًا فشيئًا، من كونها أثنى يطمع فى إشباع غريزته معها، إلى فتاة عفيفة طاهرة،
يتسلل حبها إلى قلبه، وكذلك الحال معها، فقد أخذ موقفها منه يتغير ويتحول بالتدريج،
من كونه خصما لها، بذلت ما فى وسعها من تدبير لتقهره وتنتقم منه، إلى إنسان آخر،
تبددت عندها مشاعر البغض له والحقد عليه، وباتت فى حيرة من أمرها بإزائه، أتحبه؟
أم تبغضه ؟
"فليس عندى شك الآن فى أن سيدى لا يشتهينى،
ولا يبتغى أن يظهر على، وينتصر على خَصم عنيد، وإنما هو الحب، هو الحب الذى يطمع فى
كل شيء، ويرضى بأقل شيء، بل يرضى بلا شيء، بل هو سعيد كل السعادة، ما وثق بأن
بيتًا واحدًا يحويه، مع من يحب ويهوى. هو الحب ما فى ذلك شك، لكن الشك المؤلم
المضنى، إنما يتصل بهذا القلب الذى يضطرب بين جنبى أنا
نعم ! الشك فى هذا القلب الذى يضطرب بين جنبى،
بعد أن استيقن أن هذا الشاب يحبنى، ولا يستطيع عنى سلُوًّا. ما خطب هذا القلب ؟
أمحب هو أم غير مكترث، فإن تكن الأولى ففيم المقاومة، وفيم العذاب ؟ وفيم تعذيب
الحبيب ؟ وإن تكن الثانية ففيم البقاء فى هذه الدار ؟ وفيم الصبر على هذه الحياة
التى لا تطاق ؟
كلا ! كلا ! فكرى يا آمنة ماذا أقول ؟ فكرى يا
سعاد.00 فقد محى اسم آمنة منذ دخلت هذه الدار"([12]).
والواقع أن آمنة
أو "سعاد" – كما أصبح اسمها – قد تمكن الحب من قلبها، وأصبحت لا
ترى إلا شخص المهندس، وقد أخذ عليها الحياة من جميع أقطارها، ذاد عنها كل شيء، وكل
إنسان، وخفف عنها مأساة تلك العزيزة، وكل الظلال الحزينة التى كانت تصاحب صورتها.
لكنها الكبرياء التى تجعلها تتظاهر بغير ذلك وليس أدل على تمكن حب المهندس من
قلبها من بكائها بحرارة، ساعة إبلاغه إياها، بنبأ نقله إلى القاهرة. ولم تهدأ
نفسها إلا بعد أن أبلغها، أنها سوف تكون فى صحبته.
وفى القاهرة
أقام مع أبويه فى مسكنهما، ومضت العلاقة بينه وبينها نقية بريئة من الإثم، واقترن
ذلك بتغيير سلوكه العام، فهو يعود من عمله آخر النهار، ليلزم بيته، ويعكف على
القراءة فى مكتبه، حتى ساعة متأخرة من الليل
ولم يكن لهذا الوضع أن يستمر، دون أن يعرض عليها الزواج، بيد أنها اعتذرت
له، بأن زواجها منه أمر لا سبيل إليه، وكررت له ذلك، فى كل مرة يطلب يدها، واضطرت
فى النهاية إلى أن تفصح له عما يحول بينها وبين الزواج منه، وذكرت له ما كان منه
مع أختها "هنادى"، وإن كانت الأمور الآن قد تغيرت، وأصبح كلاهما لا
يستغنى عن صاحبه. ثم انقطع الحوار بينهما، وران الصمت على الغرفة التى كانا يجلسان
فيها فى هدأة الليل، بينما صوت الكروان ينطلق فى الفضاء الخارجى، وهو الصوت الذى
أيقظ فى نفسها، كل تلك الأحداث التى مضت.
قضية.0 ورؤية :
لكن كيف تراجعت
مشاعر الكراهية والحقد، عند آمنة تجاه المهندس الشاب ؟ وكيف تحولت الرغبة
فى الانتقام منه إلى مسالمته، بل حبه حبا عميقا، جعل من العسير عليها فراقه والبعد
عنه ؟ ولعلنا نقول بعبارة أخرى :
ما الدوافع
التى دفع بها الكاتب فى تضاعيف البناء الروائى، ليسوِّغ بها هذا التطور الغريب،
والمثير للتأمل، فى موقف آمنة من المهندس ؟
ذلك هو السؤال
الذى يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، وهو، فيما نتصوره، يمثل مدخلاً إلى القضية التى
تطرحها الرواية؛ وهى قضية تتعلق بأحد الأمراض التى عانى منها المجتمع المصرى – وما
يزال يعانى إلى وقتنا الراهن - وذلك هو الجهل الذى كان متفشيا، بين أبناء الطبقة
الفقيرة التى تشكل السواد الأعظم من أبناء مصر فى الريف والمدن. ومن خلال البناء
الروائى يلوح موقف طه حسين فى الدعوة إلى التعليم، باعتباره العلاج الناجع لتلك
الآفة، والنبراس الذى يضئ الطريق، ويجنب العثرات والمهالك.
وقد دلف طه
حسين إلى تقديم موقفه هذا تقديمًا فنيًا، من خلال آمنة التى شغلت بأمر أختها،
واستبد بها التفكير فى أسباب فتنتها بهذا الشاب، إلى الحد الذى تردَّت معه فى
هاوية الخطيئة، فدفعت حياتها ثمنًا لذلك، وما أغلاه من ثمن !! ثم انساقت فى
التفكير، مدفوعة بحب الاستطلاع واستكشاف السر الخبىء، ومدفوعة كذلك برغبة عارمة فى
الانتقام، وكأنما أرادت أن تضع نفسها فى قلب التجربة، التى لم تفلح أختها فى
اجتيازها. لكنها حين صممت على خوض التجربة خاضتها بشخصية مختلفة، شخصية استنارت
بالعلم، وتحصنت بزاد فكرى من الثقافة العربية والأجنبية، بالقدر الذى أتيح لها فى
ذلك الوقت، وقد كان عملها فى بيت المأمور، ومرافقتها لابنته خديجة فى تحصيل العلم
واستذكار الدروس هو الذى مكَّنها من ذلك، على النحو الذى أسلفنا الإشارة إليه.
التعليم إذن هو الذى أكسبها نضجًا فى التفكير، وقدرة على ضبط المشاعر وكبح جماح
الغريزة، والحيلولة بينها وبين الانزلاق إلى الخطأ، وهذا هو ما افتقدته هنادى،
التى ظلت على فطرتها الريفية بسذاجتها وجهالتها؛ من ثم سقطت أمام غواية المهندس
الشاب لها.
على أنه من جهة
أخرى لم تكن آمنة من جمود المشاعر، وتبلد الأحاسيس، بحيث تستنكر للفطرة الإنسانية
فى رقتها وضعفها، أمام سلطان الحب الذى لا يقهر، وما يستتبعه ذلك من أنه كان يتعين
على أختها، على الرغم من أنها كانت فى ريعان الشباب وزهرة العمر، ألا تستجيب لداعى
الشوق والهوى؛ فقد أدركت آمنة حين خالطت الشاب، وعرفته عن قرب، مدى ما يتمتع به من
وسامة وجمال، يغرى الفتيات، ويسبى أفئدتهن؛ ومن ثم التمست لأختها العذر فى حبها له
وهيامها به، وخطر على بالها، وهى تستعيد شريط الأحداث، أغنية من أغانى الحب
الريفية الساذجة، ولم تكن هى تعير ذلك أدنى اهتمام، فما أكثر ما سمعت هذه الأغنية،
وما أكثر ما تتردد على ألسنة النساء والفتيات، فى حفلات العرس فى المدينة، وما
حولها من القرى، لكنها بعد حادث القتل الذى تعرضت له أختها، استبان لها ما كان قد
خفى عليها قبل ذلك، وغدا لها معنى جديد، وأضحت تثير لديها من العواطف، ما لم تكن
تعرفه من قبل، فالحب يغزو النفس البشرية بغير استئذان، ويسيطر على المحب، دون
أن يملك من أمر نفسه شيئًا، ومن حقه أن يرسل الاستغاثة والنداء، من فرط ما
يعانى من الوجد والهيام، ومن حقه أن يرفض لوم الآخرين له فيه.
وبالمنطق نفسه
راحت آمنة تحاسب الخال الأثيم على ما اقترف من جُرم فى حق أختها، فقد "سمع
هذه الأغنية ألف مرة ومرة، فلم يعقلها ولم يفهمها، ولم يبرئ هذه المُحبة الهائمة
من اللوم، ولم يُعفها من الإثم، ولم يصرف عنها العقاب، لأنه جامد القلب، جافى
الطبع، خشن النفس، غليظ المزاج، لم يذق لذة الحب ولا ألمه، ولم يعلم أن من الحب ما
يكون فوق اللوم، وما يكون فوق الإثم، وما يكون فوق العقاب"([13]).
وليس هذا الخال
فى الواقع إلا نموذجًا للجهل والتخلف وقساوة القلب، وتلك صفات يغلب أن يتصف بها
أهل تلك المناطق النائية التى لم تشرق عليها شمس المدنية والتحضر. هكذا يحمل طه
حسين بأسلوب فنى، على مرض عضال، من أمراض المجتمع المصرى، وهو مرض الأمية والجهالة،
ويدعو فى الوقت نفسه إلى الاستنارة بالعلم والمعرفة. فذلك – فيما يتصور – هو
السبيل إلى الحب النظيف الراقى، بعيدًا عن مزالق الشر والجريمة. وتلك، فى تقديرنا،
هى الرسالة" أو "العظة" – على حد تعبيره – التى استهدف توصيلها إلى
جمهور القراء، على لسان الراوى؛ إذ ختمت آمنة مناجاتها لطائر الكروان، فى مطلع
الرواية بقولها:
"لبيك
لبيك أيها الطائر العزيز ! إنا لنلتقى كلما انتصف الليل، منذ أعوام وأعوام،
فندير بيننا هذا الحديث، أفتدعُنى أقص أطرافًا منه على الناس، لعلهم أن يجدوا فيه عظة تعصم النفوس الزكية من أن
تزهق، والدماء البريئة من أن تراق ؟!"([14]).
مظاهر مثالية
الرؤية في الرواية
١– ولا شك فى
أن طه حسين قد غالى فى تقدير سلطان الحب على النفس، فأباح له ما لا
ينبغى أن يباح، مهما قيل فى تبريره، من ناحية الفطرة الإنسانية.
٢– وقد يصح
القول أيضًا، بأنه بالغ فى تقدير أثر التعليم على الإنسان، من حيث الربط
بينه وبين استقامة الخلق والسلوك، وهو ربط غير حتمى؛ فليس ثمة تلازم بين استنارة
الإنسان بالتعليم، وارتقائه فكريا وثقافيا، حتى لو بلغ فى ذلك أعلى المراتب
وأسماها – والالتزام بقيم الفضيلة والشرف، والاعتصام بها عن السقوط فى الخطيئة؛
فالالتزام بتلك القيم ينبع أساسًا من وازع دينى أو أخلاقى، وقد يتحقق ذلك
بالتعليم، وقد يتحقق بدونه0 ومع ذلك فإن الرواية تضرب بسهم قوى، فى الدعوة إلى نشر
التعليم بين الطبقة الدنيا فى المجتمع، والقضاء على الأمية، والتخلف الاجتماعى
المرتبط بها.
٣ - ونحسب كذلك، أنه قد بالغ فى تهيئة سبيل
التعليم أمام آمنة، فقد تجاوزت فى ذلك معرفة القراءة والكتابة، بمستوى
"محو الأمية"، إلى القدرة على مطالعة الكتب، ومشاركة "خديجة"
فى دروسها، وانتقلت بذلك من مرتبة الخادم إلى زميلة لها فى الدرس، وهو أمر مستبعد
غاية الاستبعاد؛ فليس هناك أسرة لديها من الأريحية، وكرم النفس، ما تتسامح به مع
خادمها، فينفق وقته عندها فى تحصيل المعرفة، لا فى النهوض بأعباء الخدمة، ليقف على
قدم المساواة، مع ابنها أو ابنتها بل إن الكاتب اشتط فى مسألة التعليم هذه، فجعل
آمنة تشاطر خديجة تعلم الفرنسية، وتبلغ مستوى إتقانها والقدرة على قراءة بعض
الآثار المكتوبة بها، إما بمشاركة خديجة أو بمفردها. وذلك يحتاج إلى سنوات طويلة، ما نظن أن المدى
الزمنى، لخدمتها فى بيت المأمور، فى المرة الثانية – بغض النظر عن أى اعتبار آخر –
يتسع لها.
ويخيل إلينا أن هذا المشهد من الحدث الروائى،
يحمل ظلال تجربة طه حسين الخاصة، فى تعلم الفرنسية على يد معلمته وزوجه فيما بعد،
على النحو الذى نطالعه، فى "الأيام".
رمزية الإشارة
إلى كتاب "ألف ليلة وليلة" في الرواية
- وعلى الرغم من أن طرد آمنة، من بيت الأسرة التى عملت
عندها خادمًا، عقب خروجها من بيت المأمور، يشوبه شيء من التكلف، وأن الكاتب قد
رتبه على نحو ما يشتهى، حتى يبلغ الكتاب أجله، فإن اختيار كتاب "ألف ليلة
وليلة" بالذات، ليكون القشة التى قصمت ظهر البعير – كما يقال – له دلالته
ومغزاه فى السياق الروائى؛ فالكتاب، كما نعرف، يحتوى فى كثير من أقاصيصه وصفا
لمشاهد جنسية بالغة الإثارة، تنبو عن الذوق، وتخدش الحياء؛ لهذا كان الاتجاه العام
فى المجتمع إلى تجنب قراءته، والحرص على ألا يكون فى متناول أيدى الصغار من
الجنسين، وخاصة فى سن المراهقة، وأول عهدهم بالشباب فقراءة آمنة له بعد أن عثرت عليه فى أثناء
بحثها عن الجديد من الكتب، التى حملها أبناء مخدومها من القاهرة، وعدم استجابتها
بعد ذلك لإغراءات المهندس الشاب، وصلابتها أمام كل محاولات الإيقاع بها جنسيا، ليس
إلا برهانًا واضحًا، على أنها لم تتأثر تأثرًا سلبيًا بما قرأت فى ذلك الكتاب، بل
على العكس من ذلك، كانت هذه القراءة أشبه بتطعيمها بالمصل الواقى لها من السقوط فى
براثن المرض الحقيقى. وهكذا يرسل طه حسين إشارة أخرى، بالعودة إلى الانفتاح على
مثل هذا النوع من الكتابات، دون خوف من خطره على السلوك والأخلاق، فالخطر
الحقيقى إنما هو فى الحظر لا فى الإباحة، بل إن الحظر الذى يُفرض على قراء كتاب ما،
قد يكون هو السبيل إلى انتشاره وقراءته فى الخفاء، كما فعل أبناء الرجل الذى خدمت
آمنة فى بيته
ما المآخذ التي
تؤخذ على البناء الروائي؟
١ - عدم تحديد المهادين
الزماني والمكاني بوضوح.
وقد كان من المفترض والراوى – آمنة – يتمتع
بحاسة البصر أن نرى المهاد المكانى للحدس الروائى أكثر جلاء وتحديدًا. إلا أننا
نفتقد ذلك، ولا نقرأ إلا أوصافًا فى غاية التعميم؛ فوصف القرية التى نشأت الأسرة
فيها وصف عام، والمدينة التى تسمى أحيانًا، بأنها عاصمة الإقليم، ليست محددة، لا
بالموقع ولا بالاسم، وكل ما هنالك ما نقرؤه فى الصفحات الأولى من الرواية إشارة
إلى عبور الأم وابنتيها قناة "يسمونها البحر، ويزعمون أن يوسف هو الذى
احتفرها فى الزمن القديم"([15])
.
وفى الصفحات الأخيرة تتحدث آمنة عن تفكيرها فى
الرحيل عن بيت المهندس، بعد أن طلب منها ذلك، فأشارت إلى أن عليها أن تأخذ قطارا
من هذه القطارات التى تمضى إلى الشمال نحو القاهرة، أو إلى الجنوب نحو عاصمة
الإقليم([16]).
وهذا الوصف
يصدق على مدينة "مغاغة" فى إقليم المنيا، فالقطار القادم من الجنوب يمر
بها شمالا إلى القاهرة، وعاصمة الإقليم تقع إلى الجنوب منها، وهى مدينة المنيا،
وقد يزكى ذلك أن طه حسين قد عاش سنوات حياته الأولى بالقرب من تلك المدينة حيث ولد
فى "عزبة الكيلو" الملاصقة لها، فهو أكثر معرفة بها من سواها؛ وحين يذكر
الراوى المدينة التى نقل إليها مأمور المركز يصفها بأنها، فى أقصى الأرض مما يلى
البحر([17])،
ولا يزيد على ذلك وصفًا آخر يسهم فى تحديد موقعها على خريطة البلاد.
ولا يختلف
الأمر فى البعد الزمانى للأحداث، عنه فى البعد المكانى، فباستثناء تلك الإشارات
الزمنية العامة، مثل "الضحى" أو "العصر" أو "الليل"،
أو "أيام"، أو "أسابيع"، أو "شهور" لا نجد ضبطًا
واضحًا للمهاد الزمانى الذى تتابعت الأحداث خلاله، ونعنى بها السنوات، التى تشكل
خلفية تاريخية، فى حقبة معينة من تاريخ مصر. وغاية ما يمكن الوصول إليه فى هذا
الصدد، إنما هو من قبيل الاستنتاج؛ إذ تشير آمنه – الراوى – فى بداية حديثها إلى
أنها تعود بذاكرتها إلى الوراء لتقص أحداثًا وقعت، قبل عشرين عامًا مضت أو يزيد؛
فإذا كانت الرواية قد كتبت فى أوائل الثلاثينيات، تأسيسًا على أن تاريخ كتابتها
كان عام 1934. فإن مؤدى ذلك أن أحداثها قد جرت فى مطالع العقد الثانى من القرن
العشرين، أو قبله بقليل.
٢– عدم التعمق في بناء الشصيات والأحداث
وفى جانب رسم الشخصيات يكاد يقتصر تقديمها على
ذكرها بأسمائها التى عرفت بها، دون أن يُعمق ذلك بوصف بعدها المادى، الذى يزيدها
تفردًا وتميزًا عن غيرها من الشخصيات، بل إن بعضا آخر من الشخصيات، تم تقديمه
بأوصافه الوظيفية فحسب، مثل "المهندس الشاب" و "مأمور المركز"،
و"العمدة"، و"شيخ البلد"، و"البستانى" – وإذا ساغ
قبول ذلك فنيا بالنسبة للأشخاص الأربعة الأخيرة، على الرغم من أهمية شخصية
"المأمور" التى تستدعى مزيد تحديدها – فإنه غير سائغ بالنسبة لشخصية
"المهندس" الذى يمثل شخصية محورية فى الرواية، وكانت طرفًا أساسيًا من
طرفى الصراع فيها.
- والتدبير الذى احتالت به آمنة أخيرًا من أجل قيام المهندس بطرد خادمته "سكينة" من
منزله لتحل محلها، تدبير أخرجه طه حسين على النحو الذى يحقق مراده، دون أن يفصح عن
طبيعته وكيفيته ليقتنع به القارئ.
- ثم إن العلاقة التى سادت بين آمنة والمهندس بعد استقرارها فى بيته، وفى أثناء إقامتها معه فى
القاهرة بعد انتقاله إليها، علاقة مثالية مبرأة من الدنس ومن جموح الهوى ونزق
الشباب، مع أن عكس ذلك هو الأقرب إلى طبيعة الإنسان فى تلك المرحلة من العمر؛ هذا
بالإضافة إلى التحول المفاجئ فى شخصية المهندس بعد انتقاله إلى القاهرة إذ نزع إلى
القراءة وشُغف بها، وخصص عدة ساعات لها كل ليلة، بدلا مما كان يشغل به نفسه من قبل
من ألوان التسلية والمجون وكأنما هو طه حسين ذاته، وليس الشخصية الروائية ذات
الاهتمامات المغايرة.
- وقد نضيف إلى ذلك، مستوى لغة الحوار الذى يجرى على ألسنة الشخصيات، ومعظمها شخصيات بسيطة، لم تنل
أى قسط من التعليم. ومع ذلك لا يتنوع بتنوعها، واختلاف مستوياتها الفكرية
والاجتماعية. وإنما يتخذ طابعًا واحدًا، هو طابع أسلوب طه حسين نفسه، بما نعهده
فيه، من صفاء وسلاسة يتعذر تقليدها وبما
يشيع فيه من تأكيد المعنى أحيانًا، باستخدام المفعول المطلق للفعل فى الجملة، وميل
إلى استخدام الجمل، أو العبارات المتقاربة الدلالة، ووصف المشاعر والمعانى
النفسية، أكثر من وصف الأشياء المادية.
لم يستطع طه
حسين أن يبتعد إذن عن شخصياته، وأن يقف على مسافة منها، وإنما اتحدت به، واتحد بها؛
ومن ثم لم تكن هنادى تستمد من ثقافتها هى، وتعبر بلسانها هى، فى المشهد
الذى استرخت فيه برأسها على كتف أختها آمنة، بعد ثورة ألم اعترتها، وهما يقضيان
الليلة الأولى بمنزل العمدة، ثم ما لبثت أن رفعت رأسها واستوت جالسة،- وإنما كانت
تستمد من ثقافة طه حسين، وتعبر بلسانه إذ تقول لها :
"إياك أن
تفعلى ما فعلتُ، أو تُخدعى كما خُدعت، أو تُدفعى إلى مثل ما دفعت إليه. إنك إن
تفعلى ترَىْ نفسك فى مثل ما تريننى فيه الآن من الذعر والهلع، ومن اليأس من رحمة
الله، ومن القنوط حتى من روْح الله الذى لا يقنط منه إلا الكافرون"0 فليس
بمقدور "هنادى" – على جهلها وأميتها – أن تضمِّن كلامها آية، بل عدة
آيات من القرآن الكريم(*).
وإنما هو طه حسين الذى حفظ القرآن الكريم، ودرس بالأزهر الشريف، ونهل من مصادر
الثقافة العربية والإسلامية، وظل موصول العلاقة بها.
وقد بلغ طغيان
شخصية طه حسين بفكرها وثقافتها، على أحد شخوصه، فى بعض المواقف، حد المفارقة
الصارخة، بين التعبير الذى نطقت به الشخصية، ومستواها الفكرى؛ فالتعبير ينم عن عمق فى فقه العربية، وبصر
بالفروق الدلالية الدقيقة بين كلماتها، فى حين أن الشخصية التى تحدثت به من عامة
الشعب، بل من طبقة الغوغاء التى لا تكاد تفهم العربية الفصحى، ولا علاقة لها بها
أصلا، وهذا ما نراه بجلاء على لسان "زنوبة"، متعهدة توريد
الخدم إلى بيوت الأغنياء فى المدينة، فقد عبرت عن سعادتها بتوفير فرصة عمل لآمنة،
فى بيت المهندس الشاب، فخاطبتها بقولها : "إنى لأغبطك وأحسدك معًا. أغبطك
لأنى أحبك، وأحسدك لأنى أود لو أكون مكانك، وأظفر بالسلطان على ما يحتوى هذا البيت
من نعيم"([18])
فالغبطة أن يتمنى المرء مثل ما للمغبوط من
النعمة، من غير أن يتمنى زوالها عنه؛ والحسد أن يتمنى الإنسان تحول نعمة المحسود
إليه، وأن يُسلَبها0 ومثل هذا الفرق الدلالى الدقيق بين الكلمتين لا يدركه إلا طه
حسين، أو من كان على شاكلته، فى استيعاب دلالة الكلمات والإحاطة بمعانيها، وليس
امرأة أمية جاهلة، لا تعرف القراءة والكتابة.
– وطرد آمنة، من بيت الأسرة التى عملت عندها خادمًا، عقب خروجها من بيت المأمور، يشوبه شيء من
التكلف، وأن الكاتب قد رتبه على نحو ما يشتهى، حتى يبلغ الكتاب أجله.
وإذا كان هناك من دلالة لكل ما تقدم، فإنما يدل
على أن طه حسين لم يكن، فيما يبدو، معنيا بمراعاة أصول الفن وتقاليده، فى الرواية،
قدر اعتنائه، بإبلاغ الرسالة التنويرية التى يروم إبلاغها من خلالها. هذا فضلاً عن
أن الفترة التى صدرت فيها تلك الرواية، لم يكن الفن الروائى فى أدبنا العربى، قد
بلغ فيها مبلغ النضج والاكتمال.
بعض الأسئلة
بصياغة أخرى للدكتور شفيع السيد مع إجاباتها
تطبيقات
Û
ماذا يعني مصطلح
"الواقعية" التي توصف بها بعض الأعمال الأدبية؟
E
جـ1:
ظهرت الواقعية باعتبارها مصطلحاً خاصاً له
ولا لغة في الحياة الأدبية في أوروبا حوالي منتصف القرن التاسع عشر، وكان ظهورها
رد فعل للاتجاه الرومانتيكي الذي غلب على الإبداع الأدبي، وازدهر طوال العقود
الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر، ثم أخذ يضعف ويضمحل بعد ذلك لتظهر النزعة
الواقعية على النحو الذي أشرت إليه.
ويقوم المذهب الواقعي على كشف مساوئ الواقع
وسلبياته، وتعرية مواطن القبح والفساد فيه انطلاقاً من فلسفة مؤداها أن تشخيص
الداء هو الطريق الصحيح إلى علاجه واستئصال شأفته؛ فالكاتب القصصي الذي يقدم
بأسلوب فني عالماً يموج بمظاهر متعددة للفساد كالنفاق والرشوة، والمحسوبية،
والانحراف الأخلاقي لا يقصد إلى إشاعتها، بل ليوجه أنظار من بيدهم الأمر إليها،
وينبههم إلى خطرها، ليتخذوا من الوسائل والإجراءات ما يكفل القضاء عليها، وتطهر
المجتمع من سمومها.
وقد يسبق إلى الذهن أن "الواقعية" –في
ضوء ما سبق- تعني نقل صورة من الواقع وتسجيل وقائعه تسجيلاً حرفياً أو
فوتوغرافياً، كما تفعل آلة التصوير وليس هذا صحيحاً وإنما يراد بها محاكاة الواقع
أو الإيهام به، والسبيل إلى ذلك قيام الكاتب بخلق عالم شبيه في أحداثه وشخصياته
بذلك الذي يجري من حولنا ويكون له مهاد زماني ومكاني كذلك الذي نتقلب فيه في
واقعنا الفعلي ومن الممكن حينئذ أن يكون العمل كله من وحي الخيال، ومن الممكن أن
يستعين فيه الكاتب بعناصر واقعية من أحداث عايشها وشخصيات التقى بها وراقبها عن
كثب، وكذلك الحال في المكان والزمان، لكنه يقوم في هذه الحال بتحويرها أو التغيير
فيها على نحو ما بما يجعلها متلاحمة مع نسيج العمل، ومتسقة مع معطياته ومغزاه.
ومن المهم في الواقعية أن يقوم بناء العمل
القصصي على عنصر السببية فالأحداث تتلاحق بما يجعل السابق منها مفضياً إلى اللاحق،
ومن ثم لا مجال فيها للمصادفات والأحداث العارضة.
Û س2: زاوج طه حسين في
"دعاء الكروان" بين أسلوبين في السرد. وضح ذلك مع بيان ما لذلك من تأثير
على فنية العمل.
E جـ2:
تبدو آمنة في رواية "دعاء الكروان
" هي الراوي للأحداث من خلال قالب التذكر أو الاسترجاع، كما كانت مشاركة
فيها، وبذلك اتخذ السرد ِأسلوب الضمير الأول، أو ضمير المتكلم. بيد أن طه حسين لا
يلتزم بهذا الأسلوب وحده، وإنما يزاوج بينه وبين السرد بضمير الغائب أو الضمير
الثالث، وهذا واضح منذ الصفحات الأولى من الرواية التي يبدأ فيها الراوي (آمنة)
بمفاجأة طائر الكروان عندما أثار صوت الكروان الذي سمعته في الهزيع الأخير من
الليل، وهي تجلس في غرفتها بمسكن المهندس بالقاهرة شجونها وذكرها بأحداث جسام وقعت
لها ولأسرتها من سنوات بعيدة، فراحت تناجيه بضمير المتكلم، ثم ما يلبث السرد بهذا
الضمير أن يختفي ويحل محله السرد بضمير الغائب، وكأنما هناك راو آخر يتحدث عن آمنة
نفسها، وعما وقع لها ولأختها هنادي، وأمهما زهرة بعد مصرع رب الأسرة من جراء تحلله
الأخلاقي، وشيوع مغامراته النسائية في قريته والقرى المجاورة، واضطرار الأسرة
بدافع ذاتي، أو تحت ضغط من أسرة زوجه إلى الرحيل من القرية، والتماس العيش في مكان
آخر بعيد لا يعرفهن أحد فيه.
ولا يستقر السرد بهذا الأسلوب ليعود مرة أخرى
إلى ضمير المتكلم على لسان آمنة، ثم يتحول مرة ثالثة إلى ضمير الغائب وهكذا يجري
التحول بين الأسلوبين من حين إلى حين. وهو تحول يتم بسلاسة وعضوية يجعل السياق
الروائي طبيعياً لا تكلف فيه. ولا شك أن هذا التنوع في السرد أو أسلوب العرض يخفف
من الرقابة الناجمة عن اتباع أسلوب واحد، ويدعو إلى استبقاء يقظة القارئ وانتباهه
ليتابع النص الروائي.
Û س3: القراءة العابرة
لرواية دعاء الكروان ترى في منظر سقوط الحمامة التي لامت كتفي آمنة بعد استيقاظها
من النوم في الصباح حدثاً طبيعياً. هل توافق أو تخالف؟ علل لما تختار.
E جـ3:
حينما كانت آمنة وأختها هنادي وأمهما يقضين
الليل نائمات على سطح بيت العمدة الذي ضيفهن عنده عندما هبط الظلام، وهن في طريق
العودة من المدين إلى القرية التي خرجن منها، بسبب الخطئية التي ترددت فيها هنادي
مع المهندس الذي كانت تقوم بخدمته –كان ثمة إحساس بالقلق والحزن يسيطر على الأم
وابنتها، وما إن بزغت الشمس في الصباح حتى ظهرت آمنة وهنادي مستلقيتين على الفراش،
وقد احتضنت كل منهما الأخرى، ومع صياح الدجاج من جدلها وتقافزها وراء الحب المنثور
استيقظت آمنة وجلست في مكانها، وعندئذ أحست أن حمامة هوت على كتفها، ولم تكد تلمسه
حتى طارت وارتفعت قليلاً في الجو ثم سقطت.
إن بعض الذين يقرءون الرواية، ويمرون بهذا
المنظر ينظرون إليها باعتباره منظراً طبيعياً يعضد واقعية المعالجة في الرواية، إذ
إن مثل هذا المنظر يحدث مئات المرات في الحياة اليومية. أما الذي يضع هذا الحدث في
سياقه من الرواية، ووسط جو الحزن والانقباض الذي يخيم على النسوة الثلاث، وتبدو
فيه آمنة أكثرهن تأثراً بما حدث لأختها، وأرهف حساً بمأساتها فإنه يفسر ذلك الحادث
البسيط تفسيراً رمزياً، إذ يرى فيه نذير شؤم بمصرع حمامة إنسانية هي هنادي، وذلك
ما جرى عشية ذلك اليوم إذ طعنها خالها بخنجره ووارى جثمانها في حفرة بمكان من
الصحراء، وتخلصت أمها بذلك من العار الذي دنس شرف الأسرة.
Û س4: ما النبوءة التي
قدمها طه حسين في دعاء الكروان؟ وماذا ترى لها من وظيفة فنية في السياق؟
E جـ4:
النبوءة المشار إليها في دعاء الكروان هي من
قبيل ما كان يمارسه (وربما ما يزال) بعض السيدات القادمات من البادية، اللاتي يطلق
عليهن الغجريات، ويسمى ضرب الودع"، بمعنى تحريك بعض الحززات الصغيرة بيدها،
وإدعاء الهمس لها بحال من يعرض نفسه عليها لتتنبأ له بما سوف يصيبه في المستقبل
القريب أو البعيد.
الذي حدث في دعاء الكروان أن الأم وابنتيها
حين كن في ضيافة العمدة الذي نزلن عنده في طريق العودة بعد حلول الظلام التقين
بامرأة تدعى نفيسة تحترف هذه المهنة، وقد عرضت عليها الأم ابنتها هنادي لتعرف سبب
ما تبدو عليه من شحوب وهزال، وما يعتريها من انقباض وحسن، فنثرت المرأة أمامها حبات
"ودعها" وأطالت النظر فيه، ثم رفعت رأسها وقالت للفتاة: "إني أراك
يا ابنتي بين اثنين: أحدهما يحبك وسيؤذيك، والآخر آذاك وسيحبك".
وقد تحدثت هنادي مع أختها بشأن هذه النبوءة،
ولما أعربت آمنة عن إنكارها لها، واستبعدت تحققها عقبت هنادي بما ينبئ عن خشيتها
من وقوعها بل أبلغتها بأنها سوف تتحقق من ذلك بنفسها.
والدلالة التي نراها للنبوءة أنها تصب في جو
التشاؤم الذي تعيش فيه النسوة الثلاثة، وتضيف مزيداً من القلق والفزع والاضطراب
إلى ما كانت تعانيه الأسرة منها. وكنا نفضل ألا يطفئ الكاتب وهج تلك النبوءة، حين
جعل هنادي تتنبه إلى تأويلها بما يتفق مع ما سوف تأتي به الأحداث بعد ذلك، بل تبقى
دلالتها غائبة عنها وغير واعية بها.
Û س5: يرى بعض النقاد أن
رواية دعاء الكروان حملت رسالة تنويرية إلى المجتمع المصري في الفترة التاريخية
التي ظهرت فيها. إلى أي حد توافق على هذا الرأي؟
E جـ5:
يبدو لي أن الرأي القائل بأن دعاء الكروان
لها مغزى اجتماعي وأن الغاية منها إبلاغ رسالة تنويرية إلى المجتمع المصري رأي له
وجاهته، فحوى هذه الرسالة ما للتعليم في حياة الإنسان من أهمية كبيرة، فهو النبراس
الذي ينير طريقه، ويكسبه القدرة على التمييز بين الفضيلة والرذيلة، ويجعله أقوى
على ضبط النفس وكبح جماحها أمام إغراء الشهوة، في حين أن الجهل والأمية يطمسان على
قلبه وعقله فلا يفطن إلى الخير والصواب، وسرعان ما ينزلق إلى الخطأ والخطيئة.
وهذا هو الفرق بين مسلك هنادي ومسلك آمنة،
فبينما ضعفت هنادي أمام إغراءات المهندس الشاب الوسيم، واستجابت لغوايته لافتقارها
نور التعليم وحصانته نرى آمنة كانت أصلب عوداً وأقوى إرادة فاستعصت على هذه
الإغراءات التي حاولها ذلك الشخص نفسه، وظلت متماسكة أمام محاولاته محافظة على
عرضها وشرفها، وما ذاك إلا لأنها كانت قد محت أميتها، واستضاءت بنور التعليم
بمصاحبتها لابنة المأمور التلميذة بالمدرسة، ثم واصلت الاتصال بنور المعرفة في
البيت الذي انتقلت إليه بعد خروجها من بيت المأمور، بل إنها ازدادت حصانة في
أخلاقها بقراءتها التي كانت تقوم بها خلسة في كتاب ألف ليلة وليلة الذي يغص
بالأوصاف والمشاهد الجنسية المثيرة، وكأن الرواية تنبه بذلك إلى خطأ ما كان يدعو
إليه كثيرون آنذاك من منع هذا الكتاب من التداول حماية لأخلاق الناشئة من الفتيات
والفتيان، ونرى أن الخير في إباحة قراءته لأنها تزيد من صلابة القارئ وقدرته على
ضبط مشاعره والتحكم فيها عند مواجهة الخطيئة.
ولعلنا نجد تأييدا للقول بالرسالة التنويرية
للرواية في موقف طه حسين المعروف من قضية التعليم قبل ثورة يوليو 1952 فقد نادى في
أثناء توليه وزارة المعارف (التربية والتعليم في عام 1950 بضرورة أن يكون التعليم
بالمجان كالماء والهواء. وقد كان في ذلك الوقت بمبالغ مالية لا يقدر عليها الفقراء
وهم الغالبية العظمى من الشعب.
نموذج من القصة القصيرة
القهوة الخالية
نجيب محفوظ
قال محمد
الرشيدى بنبرة أرعشها الحزن والانفعال :
إلى رحمة الله الرحيم، إلى جوار ربك الكريم يا
زاهية، يا رفيقة عمرى، إلى رحمة الله.
وانتحب باكيا وهو ينحنى فوق الجثة المسجَّاة على
الفراش، معتمدا بيمناه على الوسادة من شدة الإعياء، حتى رحمته الخادم العجوز فربتت
على يده برقة، ثم أخذته منها إلى حجرة الجلوس، فأسلم نفسه إلى مقعد كبير، وهو
يتنهد بصوت مسموع، ومد ساقيه وهو يتأوه ثم غمغم :
- أنا الآن
وحدى، لم تركتنى يا زاهيه ؟ وبعد عشرة أربعين عاما!، ولم سبقتنى يا زاهيه ؟
وعزَّته الخادم
بعبارات محفوظة غير أن منظر شيخ فى التسعين وهو يبكى منظر محزن حقا، وقد التمعت
أخاديد خديه وحفر أنفه بالدموع، فغادرت الخادم الحجرة وهى تجهش([19])
فى البكاء، وأغمض عينيه اللتين لم يبق فى أشفارهما إلا آحاد من الرموش، وراح يقول
:
- منذ أربعين
عاما تزوجت وأنتِ فى العشرين، ربيتك على يدى، وكنا سعداء جدا رغم فارق العمر، وكنت
خير رفيق، ياطيبة يا إنسانة، فإلى رحمة الله.0
وكان ذا صحة
جيدة إذا قيس بعمره، طويلا نحيلا، واختفى أديم وجهه تماما تحت التجاعيد، وبرزت
عظامه وتحددت، كأنها جمجمة، وفى عينيه غارت نظرة تحت غشاوة باهتة لا ينعكس عليها
مرئيات هذا العالم، وأمَّ الجنازة خلق كثيرون لم يكن فيهم واحد من أصحابه أو
معارفه
جاءوا يعزون
ابنه، أو إكراما لزوج ابنته الموظف بإحدى السفارات فى الخارج، أما هو فلم يبق من
أصحابه على قيد الحياة أحد. وجعل يستقبل الوجوه التى لا يعرفها، ويتساءل أين رعيل
المربين الأول، الساسة الحقيقيون على عهد مصطفى وفريد ؟ !
وعندما انقض
المأتم حوالى منتصف الليل سأله ابنه صابر :
- وماذا نويت
أن تفعل يا أبى ؟
وقالت له زوجة
ابنه :
- ولا يجوز أن تبقى هنا وحدك.0
أدرك الشيخ ما يقصدان فتشكى قائلا :
- كانت زاهية كل شىء لى، كانت عقلى ويدى.0
فقال صابر :
- بيتى هو بيتك، وستحل بحلولك بنا البركة، وستجئ
خادمتك مباركة لخدمتك.
أجل لا يمكن أن يقيم فى هذا المسكن وحده ورغم ما
يبدى ابنه وزوجته من شعور طيب فهو يؤمن بأنه – بانتقاله – سيفقد الكثير من حريته
وسيادته ولكن ما الحيلة ؟!
وكان فى شبابه ورجولته وكهولته شخصا صلبا، وما
زال يحتفظ بوقاره ومهابته، وكم خرج من أجيال من المربين والشخصيات الفذة، ولكن ما
الحيلة؟! وبطرف واجم شهد الرجل تصفية مسكنه. رأى أركانه وهى تتقوض، كما رأى احتضار
زوجته من قبل، فلم يبقوا إلا على ملابسه وفراشه وصوان كتبه التى لم يعد يمد له يدا،
وبعض التحف وصور لأعضاء الأسرة، ولبعض الرجال كمصطفى كامل، ومحمد فريد، والمويلحى،
وحافظ إبراهيم، وعبد الحى حلمى، وغادر بيته إلى مصر الجديدة فى سيارة ابنه. وهناك
أعدت حجرة لنومه وتأهبت مباركة العجوز لخدمته وقال له ابنه :
- نحن جميعا رهن إشارتك.
وابتسمت منيرة زوجة صابر ابتسامة ترحاب،
روح طيبة حقا ولكنه لا بيت له، وذلك كان الشعور الذى اجتاحه. وجلس على مقعده
الكبير يبادلها النظرات فيما يشبه الحياء وقال لنفسه لعله لو كانت سميرة ابنته فى مصر
لوجد فى بيتها أنسا ألصق بالقلب. وظهر توتو عند عتبة الباب. ردد عينيه بين أبويه،
ثم جرى حتى لبد بين ساقى والده. ونظر إلى جده بتأمل فابتسم الشيخ قائلا :
- أهلا توتو.0 تعالى.0
ونادرا ما كان توتو يزور جده مع والده. وأحبه الشيخ
كثيرا ولم يقتصد فى مداعبته، كلما وسعه ذلك ولكن توتو كان حادا فى مداعباته، فهو
يحب الوثب على من يداعبه، ويهدد عينيه وأنفه بأظافره فسرعان ما تجنبه الشيخ بلطف،
مؤثرا أن يحبه من بعيد. وأشار توتو إلى طربوش جده الطويل وقال :
- راسك !
يعنى أن يخلع طربوشه ليرى صلعته البرتقالية
المستطيلة المنحدرة التى جذبت انتباهه وتساؤله من أول نظرة، ولما لم تتحقق رغبته
راح يشير إلى أخاديد الوجه وحفر الأنف، وتتابعت أسئلته رغم محاولة والده لإسكاته.
وقال الشيخ لنفسه إن الطفل العزيز لن يعتقه من المتاعب، وإنه سيحتاج إلى حماية ولكن
أين زاهية ؟ وساعته ومنشته وسجائره كيف يحفظها من عبثه ؟ وحاول توتو أن يذهب إلى
جده ليحقق رغائبه بنفسه ولكن والده أمسك به، ودعا خادمته فحملته إلى الخارج، وهو
يصرخ محتجًا قال صابر :
- إنى أفرغ من عملى مساء، ثم أذهب إلى النادى
أنا ومنيرة، فهل تأتى معنا ؟
فقال الشيخ :
- لا تشغل نفسك بى ودع الأمور تجرى على طبيعتها.0
وذهب صابر ومنيرة، فرحب بالوحدة ليستجم. ولكن
الوحدة ثقلت عليه بأسرع مما تصور، وألقى نظرة غير مكترثة على الحجرة ثم طوقته
الوحشة متى يعتاد المكان الجديد ؟، ومتى
يعتاد الحياة بلا زاهية؟ أربعون عاما لم تخل يوما من زاهية. منذ زفت إليه فى
الحلمية ورقصت أمامهما الصرافية. والبيت بفضل يدها ينعم بنظام ونظافة، وعبير بخور
زكى. وما قيمة رمضان والأعياد بدونها ؟ وخلت الجنازه من أجيال وأجيال من تلاميذه
فهل لم يعد يذكره أحد؟!.
ولم يكن كذلك
حال الأصدقاء الذين ذهبوا ولكنهم ذهبوا , وكأنما يراهم فردا فردًا، كيوم احتشدت
بهم جنازة مصطفى كامل. ورغم أنه لم يعرف الأمراض الخطيرة قط فقد امتحنت المسكينة
بالدنج والتيفود والأنفلونزا، وأخيرا ماتت بالقلب، وتركته متعلقا بالحياة كما كان
دائما. وقام إلى نافذة فرأى منها بستانا كبيرا، يتوسط مربعا من العمارات مكان
الجامع الكبير، الذى كان يطالعه من نافذة حجرته بالمنيرة. ولفحته نسمة هواء جافة
دافئة. وعجب للصمت المريح، ولكنه أكد له وحدته. ويوم احتل الإنجليز القاهرة ظفر
بجواد ضال، ولكن والده خشى العاقبة، فضربه ومضى بالجواد ليلا إلى الخليج ثم أطلقه،
وكانت المدينة ترتجف من الخوف والحزن. ورجع إلى مجلسه فرأى عند أسفل المقعد قطة
صغيرة بيضاء، ناصعة البياض غزيرة الشعر، فوق جبينها خصلة سوداء، فآنس فى نظرة
عينيها الرماديتين استعدادا للتفاهم. وزاهية طالما عطفت على القطط، وارتاح إلى
نظرتها، ثم تابعها، وهى تدور حول رِجْل المقعد، وربت على ظهرها فتمسحت بقدمه، وعند
ذاك ابتسم ومسح على ظهرها فاستجابت
لراحته، وخفق ظهرها صعودا وهبوطا، فبشَّر ذلك بمودة وابتسم مرة أخرى عن أنياب بانت أصولها
الّطحْلُبية([20]) وشملت القطة حركة متموجة من المرح، وتزحزح
قليلا إلى اليسار ليوسع لها مكانا، ولكن صوت توتو المتهدج بالجرى ارتفع، وهو يقتحم
الحجرة صائحا :
- قطتى.0
فقال الشيخ مسلما.0
- ها هى قطتك.0
وسأله توددا عن اسمها فقال بحدة :
- نرجس.
وقبض بشدة على قفاها، ثم جرى بها خارجا، والشيخ
يهتف مستعطفا:
- حاسب.0 حاسب.0
وإذا به قد ذهل ! عجب ماذا حصل ؟ وتبين أن شيئا
أصاب جبينه وقطب مستاء فارتفعت ضحكة توتو
عند الباب، وهو يلتقط الكرة الصغيرة المرتدة0 وتحسس الشيخ النظارة ليطمئن عليها،
ثم نادى مباركة فجاءت بسرعة وحملت الطفل مبتعدة به قبل أن يعيد رمى الكرة. وقال
الشيخ :
- هذا الطفل العزيز مزعج وقاس، من للقطة
المسكينة !
منذ خمس سنوات فقدت سميرة طفلا، فى سن توتو
فعزاها باكيا وهو يقول :
- كان الأجدر أن أموت أنا
وخيل إليه وهو فى المأتم أن الأعين ترمق شيخوخته
بدهشة، مستحضرة التناقض الصارخ بين بقائه هو، وذهاب حفيده فى الثالثة، وليلتها قال
لزاهية ممتعضا :
- طول العمر لعنة.0
ولكن ما أرقها إذ قالت له : "كلنا فداك –
أنت الخير والبركة".
وعند الأصيل عاد صابر من عمله فقال لأبيه :
- ما دمت لا تريد أن تذهب معنا إلى النادى فاختر
مقهى فى مصر الجديدة، مقاهى مدينتنا جميلة وقريبة من البيت.0
قد يكون هذا هو المعقول ولكنه يحب قهوة متاتيا.
إنها مجلسه المختار طيلة دهر طويل. ومضى إلى محطة الأوتوبيس، وهو يسير، إذا سار،
وئيدا ولكن بقامة مرتفعة، ويستعمل العصا ولكنه لا يتوكأ عليها، وكثيرون هم الذين يتطلعون
إليه فى دهشة مقرونة بإعجاب. واتخذ مجلسه بالقهوة تحت البواكى، وهو يقول لنفسه
فيما يشبه المداعبة : "ما بال القهوة خالية!"، ولم تكن القهوة خالية0
ولا كان بها من الترابيزات الخالية إلا عدد محدود. ولكنها خلت من الأصحاب والمعارف.
ومن عادته أن يرنو إلى الكراسى التى حملت قديما الأعزاء الراحلين فيتخيل وجوههم
وحركاتهم. والمناقشات حول أخبار المقطم، ومباريات النرد الحامية، والسياسة. قضى
الله أن يشيعهم واحدا بعد آخر، وأن يبكيهم جميعا. وجاء زمن لم يجد فيه من رفيق سوى
واحد هو على باشا مهران، هذا الكرسى كان مجلسه. يجلس عليه قصيرا نحيلا مُكوَّما
فوق عصاه، وحافة طربوشه تماس حاجبيه الأشيبين النافرين، ويرمقه بنظرة هشه شبه
دامعة من نظارة كحلية ثم يتساءل :
-من منا
يا ترى سيسبق صاحبه ؟
ثم يغرق فى الضحك، وكانت يداه قد استوطنتهما
رعشة الكبر، رغم أنه كان يصغره بعامين. ولما مات فى الخامسة والثمانين حزن عليه
طويلا، ومن بعده خلت الدنيا، وخلت القهوة. وها هى العتبة الخضراء تدور كعادتها
أمام عينيه الكليلتين، ولكنها ميدان جديد. ومتاتيا نفسها لم يبق من أصلها إلا
الموضع، ولكن أين صاحبها الرومى الودود ؟ وأين النادل ذو الشوارب البلقانية؟
والكراسى المتينة البنيان، والترابيزات الرخامية الناصعة، والمرايا المصقولة،
والبوفيه العامر بالمشروبات، والنراجيل أين ؟ وفى ليلة شم النسيم من عام 1930 أحيل
إلى المعاش. وسهر ليلتها فى مسرح الأزبكية هو ومجموعة من الأصدقاء، حيث جلجل صوت
الطرب. أما النهار فقد قضوه فى القناطر الخيرية، محتفلين بوداعه، وألقى الشيخ
إبراهيم زناتى قصيدة. وليلتها شرب من الكونياك حتى ثمل، وهو يطرب للصوت المنشد
"يا عشرة الماضى الجميل" ولما نام آخر الليل حلم بأنه يلعب فى الجنة.
ودعا له إبراهيم زناتى مفتش اللغة العربية بمائة عام من العمر المديد فى قصيدته.
والدعوة يبدو أنها ستستجاب، ولكن القهوة خالية. والشيخ زناتى نفسه رحل، وهو ما
يزال فى الخدمة. واقترب النادل منه ليأخذ الصينية ولكنه تراجع كالمعتذر، فذكره
بفنجال القهوة المنسى الذى لم يمسه.
وعندما رجع إلى
البيت وجده راقدا فى السكون، وصاحبه لم يعد من النادى. ووجد عشاءه من الزبادى على
خوان. وغيَّر ملابسه فى بطء وجهد، ودون معاونة أحد. وجلس لتناول العشاء فتذكر نرجس.
لو تشاركه القطة الصغيرة عشاءه ؟ ! ما ألطف أن يوثق علاقته بها، فهى ستكون أنيسه
الحقيقى فى هذا البيت المشغول بنفسه لعلها فى موضع ما بالصالة. ومال نحو الباب
قليلا وهتف : "بِسْ.0 بِسْ" وقام فمضى إلى الخارج وصاح :
نرجس.
بس.0 بس.0
فجاءه المواء من وراء الباب التالى لحجرته حيث ينام توتو وخادمته وتفكر قليلا ثم اقترب من الباب ففتحه برفق،
فمرقت منه نرجس، رافعة ذيلها الدسم كالعلم.
ارتاح الشيخ فعاد نحو حجرته وهى تتبعه، ولكن
صرخة توتو دوَّت غاضبة. وقال الشيخ لنفسه باسما إن الصغير لم يكن استغرق فى النوم.
وجاء توتو جريا على القطة، ثم قبض على قفاها بشدة. وربت جده على رأسه قائلا برقة :
-خفف يدك يا توتو.0
ولكن الآخر ضعَّف ضغطه حتى خيل إلى الشيخ أن
نرجس ستختنق فقال برجاء :
-اذهب أنت وسأحملها إلى فراشك.
ولكن توتو لم يسمع له، فمال الشيخ نحوه، وخلصها
من يده وهو يقول :
-سأطعمها ثم أعيدها إليك.0
اندفع توتو غاضبا، ثم دفع جده فى ركبته. ترنح
الشيخ، ثم تراجع خطوة مضطربة، ثم تهاوى فكاد يسقط على الأرض لولا أن تلقاه الجدار،
والقطة لم تزل فوق ساعده. ولبث فى هذا الوضع المائل، لم يستطع أن يقيم نفسه، ودار
رأسه قليلا. وضغط على الأرض بقدمه وعلى الجدار بكتفه لينهض ولكنه عجز، وزحفت القطة
فوق ساعده حتى استقرت على كتفه المرتفع، ورغم دوار رأسه الخفيف أدرك مدى الخطر
الذى يتهدد عظامه بالكسر. وصاح بما تبقى لديه من قوة "يا مباركة". وكان
توتو يصرخ، وينذر توثبه بهجمة جديدة. ويئس الشيخ من إنقاذ نفسه. ازداد خورا ولم
يستطع تكرير النداء. وتحفز توتو للوثوب إلى ملاذ القطة، فاندفع بكل قوته، ولكن يد
خادمته أحاطت بوسطه، وقد اندفعت من الحجرة بعينين ذاهلتين من أثر النوم0 ثم جاءت
مباركة أخيرًا بعد أن أيقظها الزياط([21])،
فجرت نحو سيدها مستعيذة بالله.
واحتضنته من خلف، وأقامته برفق وهو يتأوه حتى
وقف كالتمثال دون حراك، على حين وثبت نرجس إلى الأرض، وفرت إلى حجرته. وبصعوبة
شديدة رجع الشيخ إلى مقعده الكبير معتمدا على ذراع مباركة. ومضت فترة وهو صامت،
والمرأة لا تكف عن السؤال عن صحته. وأشار لها بيده يطمئنها، ثم أسند رأسه إلى ظهر
الكرسى، ومد ساقيه متنهدا. وأغمض عينيه ليستجم.
وفى الحال تذكر حفلة تأبين راسخة فى الروح. رجع
من المنصة بعد أن ألقى كلمة طيبة، ثم جلس إلى جانب صديقه، ومال الصديق نحوه وسكب
فى أذنه ثناء جميلا. لكن من كان ذلك الصديق ؟ آه.0 إنه واثق من أنه سيتذكره، وكم
أنه مذهل أنه نسيه. قال كلمة لا يمكن أن تنسى كذلك. وبكت كل عين، حتى الأطفال
ترامى صراخها. ومال الصديق نحوه مرة أخرى وقال. وتأكد من أنه سيظفر بالذكريات
جميعا.
وسرعان ما استغرق فى النوم.
القهوة الخالية
دورة الزمن التى لا تقهر
طول العمر وامتداد الأجل مطمع السواد الأعظم من
البشر، إن لم يكن جميع البشر، وقد صاغ أبو الطيب المتنبى حكمته القائلة :
"ومن لم يعشق الدنيا قديمًا"، فالإنسان فطر على حب الحياة، معتقدا أن
طول الأجل نعمة، وأمل تتطامن دونه كل الآمال، لكن الواقع يصادم هذا الاعتقاد؛ فطول
العمر يُسْلم إلى الشيخوخة بعنائها ومتاعبها وضعفها، وما يلح على الإنسان فيها من
إحساس بالفقد، واغتراب فى الزمان والمكان، وعجز عن التواؤم مع الآخرين من حوله.
وهذا ما تشعه قصة "القهوة الخالية"، وتوحى به صورها الوصفية ومشاهدها،
وأحاديث بطلها النفسية الصامتة.
وأشد ما تتجلى تلك المعانى والدلالات،
عندما يفقد من أدركته الشيخوخة، وبلغ أرْذَل العمر – العون والسند، والسكن والرحمة
ممثلا فى زوجه التى شاركته سراء الحياة وضراءها، وقاسمته أدق المشاعر والأحاسيس،
وتحملت عنه الكثير من أعباء الشيخوخة ومساوئها، فإذا ما هوى ذلك العون والسند،
وغاب غيابا أبديا بالموت، تضاعفت العلة، وتعاظم الخطب وبدا طولُ العمر بلاءً وهما،
وهو الذى كان يعتقد أنه خير ونعمة. من هنا كان موت الزوجة فى القصة نقطة بداية
حاسمة، و"محمد الرشيدى" الذى سلخ من العمر تسعين عاما، رحلت
زوجته "زاهية" عن الدنيا بعد أن عاشت معه أربعين عاما، كانت
خلالها أنيسه ورفيق دربه.
أول ما دهم الرجل من حقائق جلاَّها له طول العمر،
وألمحت إلى شعوره بالفقد أنه لم يعرف أحدا من الذين شاركوا فى جنازتها، على الرغم
من كثرتهم الكاثرة، لأن أصدقاءه ومعارفه قد ماتوا، وهؤلاء إنما أتوا ليّعزوا ابنه،
أو إكراما لزوج ابنته الموظف بإحدى السفارات بالخارج، وكأنه يعيش خارج حدود العصر
وقد صاغ أبو الطيب المتنبى حكمته القائلة : "ومن لم يعشق الدنيا قديمًا"،
فالإنسان فطر على حب الحياة، معتقدا أن طول الأجل نعمة، وأمل تتطامن دونه كل
الآمال، لكن الواقع يصادم
وما لبثت تداعيات الوضع الجديد تتوالى، فقد بات لزاما
عليه أن يستجيب لطلب ابنه "صابر" وزوجه بالانتقال من مسكنه بحى المنيرة
للإقامة معهما بمصر الجديدة، ولهذا الانتقال ثمنه الباهظ، فهو يحد من حريته فيما
يأتى ويذر من الأعمال، وينال من شعوره بالسيادة، وقد ظل يتمتع بهاتين القيمتين
الغاليتين فى بيته طوال السنوات الماضية، ومهما يكن من تقدير ابنه له، وحنوه عليه
فلن يكون له فى إقامته معه من الحرية والسيادة، مثل ما كان له فى مسكنه الخاص.
ومنذ اللحظة الأولى لإقامته بمصر الجديدة بدأت
متاعبه مع حفيده الصغير "توتو"، وبدا ما بينه وبين ابنه
"صابر" نفسه، من تباين فى المنزع والهوى، بحكم فارق السن، وظروف التطور،
يضاعف من إحساس الشيخ بالاغتراب، فعلى حين يقضى صابر وزوجه – تمشيا مع ظروف العصر
وسنة التطور – وقت فراغهما فى النادى، فيذهبان إليه كل مساء بعد عودتهما من العمل،
عزف الشيخ عن مصاحبتهما، حين عرض صابر عليه ذلك، فى اليوم الأول من حلوله بمنزله،
مؤثرا أن يخلو إلى نفسه فى غرفته، قائلا :
"لا تشغل نفسك بى، ودع الأمور تجرى على
طبيعتها".
كيف ظهر إحساس
الفقد والاغتراب في القصة، وما مظاهر هذا الإحساس؟
وبأسلوب التذكر تتداعى إلى ذهن محمد الرشيدى
صورة من الماضى، تتراءى فى مواجهتها صورة من الحاضر، ومن المقابلة بين الصورتين،
يبرز إحساسه حادا بالفقد والاغتراب فى المكان، فحين أطل الشيخ من نافذة فى مسكن
ابنه بمصر الجديدة، "رأى بستانا كبيرا يتوسط مربعا من العمارات مكان الجامع
الكبير الذى كان يطالعه من نافذة حجرته بالمنيرة". ونجيب محفوظ – كما نرى –
يقدم تلك الصورة الوصفية بأسلوب "تداخل الصور" الذى ينبع من تكثيف
العبارة وشدة إحكامها، وآية ذلك أن كلا المنظرين، على الرغم مما بينهما من فرق
كبير فى طبيعته، وزمانه، ومكانه، لم يستقل وحده بعبارة، وإنما ضمتهما معا عبارة
واحدة ركز الكاتب بناءها، وربَطَ مفرداتها بعضها ببعض.
وهذا الإحساس بالفقد عند محمد الرشيدى يلمحه
المتلقى قبل ذلك فى تصفية مسكنه بالمنيرة من محتوياته، تأهبا للانتقال منه، فلم
يبقوا منه إلا على جزء قليل فقط كملابسه، وصوان كتبه التى أهمل القراءة فيها بحكم
طول الزمن وفتور الهمة، وصور لأعضاء الأسرة، وصورة لبعض أعلام السياسة والشعراء
والفنانين الذين عاصرهم، ورحلوا عن الدنيا، وبعض التحف الثمينة
وإذ انقرض أصدقاؤه ومعارفه، ممن كان يتواصل معهم
اجتماعيا وفكريا، وإذ رحلت زوجه وشريكة حياته عن الدنيا، وإذّ شُغل ابنه بأسرته
وحياته الخاصة – إذ حدث كل ذلك لم يبق إلا حفيده الصغير "توتو" والخادم
مباركة، وقطة صغيرة تلوذ بالبيت، فهؤلاء هم عالمه الذى يتحرك فيه، ويقضى أغلب وقته
فى محيطه، وعليه أن يتعايش مع أفراده، متحملا مشاكسات حفيده القاسية فى أكثر
الأحيان، والتى بدأت من أول يوم كما أشرنا من قبل؛ فبعد خروج صابر وزوجه إلى
النادى، جاءت القطة "نرجس" فدارت حول رِجْل المقعد الذى يجلس عليه الشيخ،
فمسح على ظهرها، "عند ذلك أقبل توتو مسرعا، وقبض بشدة على قفاها، ثم جرى بها
خارجا، والشيخ يهتف به مستعطفا.
-حاسب.0 حاسب.0
وإذا به قد ذهل
! عجب ماذا حصل ؟ وتبين أن شيئا أصاب جبينه وقطب مستاء، فارتفعت ضحكة توتو عند الباب، وهو
يلتقط الكرة الصغيرة المرتدة وتحسس الشيخ النظارة ليطمئن، ثم نادى مباركة فجاءت
بسرعة، وحملت الطفل مبتعدة به، قبل أن يعيد رمى الكرة".
وبقدر ما يدل المشهد على وهن الشيخ وعجزه بدنيا
ونفسيا عن إيقاف شغب الطفل ومضايقاته، يثير انتباهنا إلى اقتصاد الكاتب الملحوظ فى
لغته، واستخدام ما يمكن تسميته بالعبارة "مزدوجة الاتجاه"، فنحن نراه قد
أضمر الفعل الذى كان الطفل يهم به، لحظة هتف به جده مستعطفا (حاسب!) وأول ما
يتبادر إلى الذهن بحكم ما مضى من السياق , أن صيحة الاستعطاف انبعثت منه إشفاقا
على القطة التى شدد الطفل قبضته على قفاها، إلا أن هذا التوقع سرعان ما يتبدد،
وينجلى الأمر عن أن الصيحة أطلقها الشيخ دفاعا عن نفسه، لحظة أن هيأ الطفل الكرة
ليسددها إلى رأسه، بيد أن العبارة صالحة وملائمة للحالتين.
كيف
وتبلغ القصة مستوى الإفصاح عما أشرنا إليه، من
تصويرها لأزمة الشيخوخة، وأنها ليست نعمة – كما هو السائد فى الإدراك العام – بل
نقمة، فى الموقف الذى استحضره وعى محمد الرشيدى، فى أعقاب ما أفزعه من حفيده، إذ
تذكر ابن ابنته سميرة الذى مات، وهو فى مثل سن توتو، ويومها تفجر فى نفسه الإحساس
بالتناقض بين بقائه – مع طول ما سلخ من العمر – على قيد الحياة، واغتيال الموت
لطفل فى الثالثة من عمره، لم يهنأ بالحياة بعد0 وأفصح لابنته عن هذا التناقض، إذ
قال لها وهو يعزيها باكيا : "كان الأجدر أن أموت أنا"، وقرأ هذا المعنى
نفسه فى عيون المعزين، وإن لم يتلفظوا به، وحين رجع إلى البيت قال لزوجه زاهية
"طول العمر لعنة".
وفى تقديرى أن
هذه الجملة على قصرها تمثل "مفتاح الدلالة" فى القصة، وبؤرتها المشعة،
فكل ما سبقها من نسيج القصة، وما سوف يعقبه، ينبع منها ويصب فيها.0 وقد جاءت
الجملة فى موقعها الملائم من السياق، وفى غاية السلاسة والعفوية.
ويُغْنى نجيب
محفوظ إحساس محمد الرشيدى بالفقد، وما يمتزج به من إحساس بالاغتراب فى المكان
والزمان، باستخدام أسلوب التذكر للماضى مرة أخرى، مقرونا بالحاضر، وفى مواجهته –
فى تلك اللقطة التى قدمها، وقد ذهب الشيخ إلى قهوة متاتيا بميدان العتبة الخضراء،
مفضلا إياها على أى قهوة من مقاهى مصر الجديدة، الجميلة والقريبة من البيت، حين
عرض عليه ابنه ذلك لتزجية وقت فراغه، بدلا من المكث فى البيت، وبعد رفض الذهاب إلى
النادى.
رفض الرشيدى مقاهى مصر الجديدة، واجتذبه الماضى
بقوة إلى قهوة متاتيا بميدان العتبة الخضراء، فقد كانت مقصده فى سنوات عمره الخالى،
وملتقى أصدقائه ومعارفه، وكم شهد فيها مناقشاتهم السياسية، وألعاب النرد الحامية
بينهم، وها هو ذا الآن يتفقد المكان فلا يعثر لشىء من ذلك على أثرّ! حتى صاحب
المقهى الرومى الودود، والنادل ذو الشوارب البلقانية، وكثير مما كان يزينها، وتعمر
به من المرايا المصقولة، والترابيزات الرخامية، والنراجيل، كل ذلك اختفى !! ومع
كثرة الذين شغلوا مقاعدها من الرواد آنئذ، تردد فى نفسه السؤال : "ما بال
القهوة خالية ؟" وهو سؤال له مغزاه فى الإيحاء بانكفاء الشيخ على ماضيه
وتعلقه به، وعزوفه عن الحاضر وعدم إقباله عليه وتواؤمه معه، فخلو القهوة من الرواد
أو امتلاؤها بهم، ينصب على أصحابه ومعارفه فقط، وليس بين الحاضرين واحد منهم !!
ولا نخفى إعجابنا بأسلوب الكاتب فى تقديم هذه
اللقطة، فالعبارات دقيقة الوصف، شديدة التركيز، يستدعى فيها الماضى من منظور
الحاضر، وتحت ظلاله، فيشعر المتلقى كأنما يشاهدهما معا فى آن.
رمزية المكان؟
على أنه بقدر ما يمكن النظر إلى القهوة
باعتبارها مكانا حسيا، له وجوده المادى المحدد فى وسط القاهرة (العتبة الخضراء)
كان يرتاده بعض الزعماء والمفكرين فى عصر مضى، يمكن اعتبارها كذلك رمزا إلى الحياة
الدنيا التى يتوافد الأحياء إلى ساحتها، ليقضى كل منهم ما شاء الله أن يقضى بها،
ثم يغادرها ليأتى جيل آخر ثم يمضى، وهكذا تفرغ وتمتلئ !!
كيف كان المشهد
الأخير في القصة الذروة في تصوير عجز الشيخوخة؟
ويبدو المشهد الأخير من القصة مشهدا دراميا،
تبلغ فيه ذروتها فى تصوير عجز الشيخوخة، وخَوَر قواها أمام حيوية الجيل الوليد
الذى يمثل دورة جديدة من دورات الزمن المتعاقبة، بل إنه يجسد كذلك مدى ما لحق
بذاكرة الشيخ من ضعف واعتلال، وبسبب من "شقاوة" توتو، وحركته الدائبة
وراء القطة كاد الشيخ يسقط على الأرض، بعد إصرار توتو على انتزاعها من بين يديه،
وبمساعدة من الخادم استعاد توازنه، وجلس على الكرسى، وحينئذ اضطرب وعيه بأخلاط من
أصوات الأطفال، ومواء القطط، وحدث من الماضى حاول أن يتذكره، فاستعصى عليه، ولم
يكن هذا الحدث إلا حدثا يتعلق بالموت، الذى اقترب من حافته، ودفع صديقا له إلى
التعبير عنه بعبارة ثناء، همس بها فى أذنه، لكن هذه العبارة استعصى عليه تذكرها
أيضا، كما استعصى عليه تذكر اسم الصديق نفسه0 لقد انداح كل ذلك فى الأغوار البعيدة
من نفسه، وغاب فى دوامة النسيان، وكان استغراقه فى النوم إيحاء بانهيار المقاومة
والاستسلام أمام زحف آلة الزمن التى تحصد الأعمار مهما طالت
* * *
أسئلة حول القصة
س : الإحساس بالفقد، وما يرتبط به من
إحساس بالاغتراب فى المكان والزمان يشيع بصورة لافتة
للنظر فى قصة "القهوة الخالية" لنجيب محفوظ.:
ناقش الفكرة السابقة، مبرهنا على صحتها.
جـ : تمثل قصة
"القهوة الخالية لنجيب محفوظ نموذجا جيدا للقصة القصيرة. وهى تصور حكاية رجل
عجوز ماتت رفيقة حياته، وتركته وحيدا ليضطر إلى الانتقال إلى مسكن ابنه بمصر
الجديدة، ليعيش معه ومع زوجه وابنه الصغير.
والقصة
تُشيع الإحساس بأن "طول العمر" قد يكون نقمة، وبخاصة بعد أن يفقد
الإنسان العون والسند، والسكن والرحمة متمثلا فى الزوجة التى تشاركه سراء الحياة
وضراءها، وتقاسمه أدق المشاعر والأحاسيس، وتتحمل عنه الكثير من أعباء الشيخوخة
وآلامها؛ ومن هنا كان موت الزوجة فى القصة نقطة بداية حاسمة لمحمد الرشيدى الذى
بلغ من العمر تسعين عاما.
ولهذا
نجد "الإحساس بالفقد"، وما يرتبط به من شعور بالاغتراب يشيع فى تصوير
القصة، ويملأ جوها بوجه عام.
ومن
دلائل ذلك أن الرجل (محمد الرشيدى) لم يعرف أحدا من الذين شاركوا فى جنازة زوجته
على الرغم من كثرتهم؛ لأن أصدقاءه ومعارفه قد ماتوا، وهؤلاء إنما أَتَوْا ليعزوا
ابنه، أو إكراما لزوج ابنته؛ وكان هذا أول ما صُدم به الرجل.
وحين
يُضطر أن ينتقل من مسكنه بحى المنيرة للإقامة مع ابنه "صابر" وزوجه بمصر
الجديدة، تتوالى الأحداث، والذكريات مؤكدة الشعور السابق.
بم تفسر
تداعيات أحداث الماضي مع أحداث الحاضر فى ذهن محمد الرشيدي؟
الكاتب يتخذ من أسلوب "التذكر" أداة يبرز من خلالها إحساس محمد
الرشيدى الحاد بالفقد والاغتراب عن طريق تداعى صورة الماضى التى تتراءى فى
مواجهتها صورة من الحاضر، وعن طريق المقابلة بين الصورتين يتجلى هذا الإحساس عنيفا قويا.
ومن
نماذج ذلك : حين أطلّ الشيخ من نافذة فى مسكن ابنه بمصر الجديدة رأى بستانا كبيرا
يتوسط مربعا من العمارات مكان الجامع الكبير الذى كان يطالعه من نافذة حجرته
بالمنيرة. وعلى الرغم من أن نجيب محفوظ لم يقدم هذا الموقف بصورة تفصيلية، وإنما
قدمه فى عبارة شديدة الإيجاز، تتسم بتداخل الصور – فإن العبارة تبرز فرق ما بين
الماضى والحاضر فى الزمان والمكان وما يرتبط بهما من مشاعر وأحاسيس.
ويتجلى
هذا الإحساس بالاغتراب فى المكان والزمان فى تلك اللقطة التى قدمها نجيب محفوظ حين
ذهب الشيخ إلى قهوة "متاتيا" بميدان العتبة الخضراء، مفضلا إياها على أى
قهوة من مقاهى مصر الجديدة الجميلة والقريبة من البيت، التى كان قد عرضها عليه
ابنه، ينفق فيه وقته بدلا من البقاء فى البيت.
رفض
الرشيدى مقاهى مصر الجديدة، واجتذبه الماضى بقوة إلى قهوة "متاتيا"
بميدان العتبة الخضراء؛ فقد كانت مقصده ومكانه المفضل فى سنوات عمره الخالى، وكانت
ملتقي أصدقائه ومعارفه، وكم شهد فيها مناقشاتهم السياسية، وألعاب النّرد الحامية
بينهم. وهاهو ذا الآن يتفقد المكان فلا يعثر لشىء من ذلك على أثر ! حتى صاحب
المقهى الرومى الودود، وكذا النادل ذو الشوارب البلقانية، وكثير مما كان يزينها
وتعمر به من المرابا المصقولة، والترابيزات الرخامية، والنراحبل، كل ذلك اختفى !
ومع كثرة الذين شغلوا مقاعدها من الرواد تردد فى نفسه السؤال : "ما بال
القهوة خالية؟". وهو سؤال له مغزاه فى الإيحاء بتعلق الشيخ بالماضى وانجذابه
إليه، وعزوفه عن الحاضر، وعدم إقباله عليه وتواؤمه معه؛ فخلو القهوة من الرواد أو
امتلاؤها بهم ينصب على أصحابه ومعارفه فقط، وليس بين الحاضرين واحد منهم.وقد قدم
نجيب محفوظ هذا اللقطة فى عبارات دقيقة الوصف، شديدة التركيز، يستدعى فيها الماضى
من منظور الحاضر، فيشعر المتلقى كأنما يشاهدهما معا.
"طول العمر نعمة"- "طول العمر
نقمة". أي الانطباعين تبثه القصة في نفسك؟ مع ذكر ما تراه من دلائل لأي منهما.
طول العمر وامتداد الأجل مطمع السواد الأعظم من
البشر، إن لم يكن جميع البشر، هذا الاعتقاد؛ فطول العمر يُسْلم إلى الشيخوخة
بعنائها ومتاعبها وضعفها، وما يلح على الإنسان فيها من إحساس بالفقد، واغتراب فى
الزمان والمكان، وعجز عن التواؤم مع الآخرين من حوله. وهذا ما تشعه قصة
"القهوة الخالية"، وتوحى به صورها الوصفية ومشاهدها، وأحاديث بطلها
النفسية الصامتة.
وأشد ما تتجلى تلك المعانى والدلالات،
عندما يفقد من أدركته الشيخوخة، وبلغ أرْذَل العمر – العون والسند، والسكن والرحمة
ممثلا فى زوجه التى شاركته سراء الحياة وضراءها، وقاسمته أدق المشاعر والأحاسيس،
وتحملت عنه الكثير من أعباء الشيخوخة ومساوئها، فإذا ما هوى ذلك العون والسند،
وغاب غيابا أبديا بالموت، تضاعفت العلة، وتعاظم الخطب وبدا طولُ العمر بلاءً وهما،
وهو الذى كان يعتقد أنه خير ونعمة. من هنا كان موت الزوجة فى القصة نقطة بداية
حاسمة، و"محمد الرشيدى" الذى سلخ من العمر تسعين عاما، رحلت
زوجته "زاهية" عن الدنيا بعد أن عاشت معه أربعين عاما، كانت
خلالها أنيسه ورفيق دربه.
أول ما دهم الرجل من حقائق جلاَّها له طول العمر،
وألمحت إلى شعوره بالفقد أنه لم يعرف أحدا من الذين شاركوا فى جنازتها، على الرغم
من كثرتهم الكاثرة، لأن أصدقاءه ومعارفه قد ماتوا، وهؤلاء إنما أتوا ليّعزوا ابنه،
أو إكراما لزوج ابنته الموظف بإحدى السفارات بالخارج، وكأنه يعيش خارج حدود العصر
وقد صاغ أبو الطيب المتنبى حكمته القائلة : "ومن لم يعشق الدنيا قديمًا"،
فالإنسان فطر على حب الحياة، معتقدا أن طول الأجل نعمة، وأمل تتطامن دونه كل
الآمال، لكن الواقع يصادم
وما لبثت تداعيات الوضع الجديد تتوالى، فقد بات لزاما
عليه أن يستجيب لطلب ابنه "صابر" وزوجه بالانتقال من مسكنه بحى المنيرة
للإقامة معهما بمصر الجديدة، ولهذا الانتقال ثمنه الباهظ، فهو يحد من حريته فيما
يأتى ويذر من الأعمال، وينال من شعوره بالسيادة، وقد ظل يتمتع بهاتين القيمتين
الغاليتين فى بيته طوال السنوات الماضية، ومهما يكن من تقدير ابنه له، وحنوه عليه
فلن يكون له فى إقامته معه من الحرية والسيادة، مثل ما كان له فى مسكنه الخاص.
وتبلغ القصة
مستوى الإفصاح عما أشرنا إليه، من تصويرها لأزمة الشيخوخة، وأنها ليست نعمة – كما
هو السائد فى الإدراك العام – بل نقمة، فى الموقف الذى استحضره وعى محمد الرشيدى،
فى أعقاب ما أفزعه من حفيده، إذ تذكر ابن ابنته سميرة الذى مات، وهو فى مثل سن
توتو، ويومها تفجر فى نفسه الإحساس بالتناقض بين بقائه – مع طول ما سلخ من العمر –
على قيد الحياة، واغتيال الموت لطفل فى الثالثة من عمره، لم يهنأ بالحياة بعد0
وأفصح لابنته عن هذا التناقض، إذ قال لها وهو يعزيها باكيا : "كان الأجدر أن
أموت أنا"، وقرأ هذا المعنى نفسه فى عيون المعزين، وإن لم يتلفظوا به، وحين
رجع إلى البيت قال لزوجه زاهية "طول العمر لعنة".
وفى تقديرى أن
هذه الجملة على قصرها تمثل "مفتاح الدلالة" فى القصة، وبؤرتها المشعة،
فكل ما سبقها من نسيج القصة، وما سوف يعقبه، ينبع منها ويصب فيها.0 وقد جاءت
الجملة فى موقعها الملائم من السياق، وفى غاية السلاسة والعفوية.
دراســـــات
فـــــــي المسرحيــــــة
تمهيد:
ظهرت
"المأساة" في بلاد اليونان منذ أكثر من خمسة وعشرين قرنا، وذاع أمرها في
العالم القديم، وأصبحت بعدئذ منبعا للفن المسرحي في العالم الحديث، ففي القرن
الخامس قبل الميلاد سّجل شعراء الإغريق الكبار "أسخيلوس"، و
"سوفوكليس"، و "يوريبيدس" بأعمالهم الرائدة شهادة الميلاد
لهذا الفن العريق بصورتيه الأساسيتين: المأساة (التراجيديا)، والملهاة
(الكوميديا).
وقد
نشأت المسرحية بصورتيها السابقتين نشأة دينية؛ حيث تطورت عن بعض الأناشيد الدينية
التي كان اليونانيون القدامى يتغنَّون بها في أعياد آلهتهم، وبخاصة أعياد إله
الخمر والخصب والنماء عندهم، وهو "ديونيزوس"، ثم ارتقت بعد ذلك، وبلغت
"المأساة" ذروة نضجها على يد هؤلاء الرواد الثلاثة. أما
"الملهاة" فقد اكتملت ملامحها في نفس الفترة تقريبا التي تبلورت فيها
ملامح "المأساة" – أو بعد ذلك بقليل. وكان اكتمالها على يد الشاعر
"أرستوفانيس" الذي كان معاصرا ليوريبيدس.
وقد
أوْلى "أرسطو" "المأساة" – في كتابه "فن الشعر"
اهتماما كبيرا، بينما لم تحظ "الملهاة" منه إلا بإشارات قليلة جداً.
ويتبدَّى هذا الاهتمام في أنه قدّم لها تعريفا عاما، محددا الأسس التي تقوم عليها
"المأساة"، والعناصر التي تتكون منها، والوظيفة المنوطة بها.
الوحدة الأولى
الدراما الحديثة
المأساة الكلاسيكية ودورها في القضاء
على المأساة الإغريقية
على
الرغم من أن الرومان انتصروا انتصاراً عسكرياً كاسحاً على الإغريق في منتصف القرن
الثاني قبل الميلاد فإنهم تأثروا تأثراً كبيراً بالأدب الإغريقي([22]).
وقد
جهر الأدباء والنقاد الرومان بضرورة محاكاة الأدب الإغريقي، فهوراس (65 ق.م– 8
ق.م) شاعر الرومان الكبير يقول في رسالته الشهيرة "فن الشعر": "
انكبوا على مخلفات الإغريق ليلا، وانكبوا نهارا([23])".
ويقول عن الإغريق: "وهبت ربة الشعر الإغريقي النبوغ، وعلى الإغريق جادت
بالمقدرة على صياغة الكلام المكتمل الموسيقي: لأن نهمهم الأوحد كان للمجد([24])"
كما ضمن كتابه مجموعة من الآراء النقدية
المستمدة من كتاب أرسطو "فن الشعر([25])".
وجاء
الناقد كانتليان بعد هوراس فوضع أسسا وقواعد لمحاكاة الإغريق، أهمها: اختيار
النماذج التي تحاكي، وأن تكون المحاكاة في التقاليد الفنية العامة، وألا تمحو
المحاكاة أصالة الأديب([26]).
ومن
الطبيعي ألا ينمو في مثل هذا الجو التقليدي أدب مسرحي ناضج، غير أن جهود الرومان
في مجال المسرح إبداعا ونقدا إنما تكتسب قيمتها من ذلك التأثير الذي مارسته على
تطور فن المسرحية ابتداء من عصر النهضة حتى نهاية العصر الكلاسيكي؛ حيث كان تأثر
كتاب المسرح في هذه المرحلة بجهود الرومان وبخاصة آراء هوراس النقدية – يفوق في
بعض جوانبه التراث الإغريقي ذاته([27]).
المسرحية
في
العصور
الوسطى
أما
في العصور الوسطى فقد انقطعت صلة الأوروبيين أو كادت بالتراث المسرحي الإغريقي
والروماني. والأعمال المسرحية التي ألّفت وعُرضت في هذه الفترة كانت على قدر كبير
من السذاجة الفنية. وكان أصحابها يستمدون موضوعاتها من قصص الكتاب المقدس مثل: قصة
آدم، وقصة قابيل وهابيل، وآلام المسيح ومعجزاته، وغير ذلك من القصص الدينية، كما
كانوا يصوغونها صياغة مسرحية ساذجة. ويمكن أن يقال: إن هذه الأعمال بدأت من نفس
النقطة التي بدأ منها المسرح الإغريقي وهي: المناخ الديني.
المسرح
في عصر
النهضة
وفي
عصر النهضة (من القرن الرابع عشر إلى السادس عشر) عاد الأدباء الأوروبيون إلى
الينابيع الأولى، التي كانت تتمثل بالنسبة لهم في التراثين الإغريقي والروماني،
يستمدون منها؛ ومن ثم عكف هؤلاء الأدباء على هذا التراث، سواء أكان في مجال
الإبداع المسرحي، أو في مجال النقد المسرحي، يشرحونه، ويحاكونه، ويستخلصون منه
القواعد الفنية لكتابة المسرحية. ومن الملاحظ أن تأثرهم بالتراث اللاتيني – وبخاصة
في مجال النقد – كان أقوى وأوضح؛ لأن اللغة اللاتينية كانت لغة الدين في هذا
العصر، ولأن النهضة الأدبية بدأت في إيطاليا أولا (في القرن الرابع عشر) ثم تبعتها
بقية البلاد الأوروبية([28]).
وقد أوَّل شُراح عصر النهضة بعض أفكار أرسطو في
"فن الشعر" تأويلا خاصا، واستنبطوا منها قواعد ومبادئ لم يقل بها أرسطو،
كقاعدة الوحدات الثلاث: (وحدة الفعل، ووحدة الزمان، ووحدة المكان).
هل
قال
أرسطو بحتمية
الوحدات
الثلاث؟
"والواقع أن أرسطو تحدث عن
"وحدة الفعل" أو "الموضوع"، وكان حديثه عنها واضحا لا لبس
فيه، حين قرر:
أ-
"أن
المأساة محاكاة فعل تام له مدى معلوم، لأن الشيء يمكن أن يكون تاما، دون أن يكون
له مدى، والتام ما له بداية ووسط ونهاية".
ب-
وحين
أراد وضع قاعدة عامة بعد ذلك لطول المسرحية، إذ قال: "إن الطول الكافي هو
الذي يسمح لسلسلة من الأحداث، التي تتوالى وفقا للاحتمال أو الضرورة أن تنتقل
بالبطل من الشقاوة إلى النعيم، أو من النعيم إلى الشقاوة".
أما "وحدة
الزمان" فقد استنبطها شُراح عصر النهضة من عبارة عابرة قالها أرسطو في مجال
مقارنة بين المأساة والملحمة، حيث ذهب إلى أن "التراجيديا تحاول جاهدة أن تقع
تحت دورة شمسية واحدة، أو لا تتجاوز ذلك إلا قليلا([30])".
ومن الواضح أن أرسطو
لا يجعل من هذه الوحدة قانونا واجب الالتزام، كما جعل من وحدة الفعل مثلا، وإنما
هي مجرد ملاحظة عامة لاحظها على الأعمال التراجيدية في عصره، ومن ثم فلم يهتم بها
اهتمامه بوحدة الفعل، ولم يتناولها في غير هذه العبارة؛ فضلا عن أنه لم يحدد
المقصود "بدورة الشمس"؛ ولذلك اختلف الشراح في تحديد هذه الدورة، والمدى
الزمني الذي ينبغي أن تستغرقه الأحداث في المأساة، فأوصل بعضهم هذا المدى إلى أربع
وعشرين ساعة، بينما هبط به البعض إلى ثلاث ساعات – أي المدى الذي يستغرقه تمثيل
الأحداث على المسرح تقريبا([31]).
وفيما يتصل
"بوحدة المكان" فإن أرسطو لم يشر إليها إطلاقا، ولكن الشراح استنبطوها
من وحدة الزمان؛ فما دامت الأحداث محصورة في هذا الحيز الزمني المحدود، فلابد إذن
أن تتم في مكان واحد. ومع هذا فقد اختلفوا في تحديد "وحدة المكان" كما
اختلفوا من قبل في تحديد"وحدة الزمان"، فحصر بعضهم المكان في الموضع
الذي يبدأ فيه التمثيل، على حين توسع بعضهم في مدى المكان قليلا بحيث لا يتجاوز
حدود المدينة([32]).
وعلى أية حال فقد
أصبحت هذه الوحدات الثلاث قانونا ملتزما في المأساة حتى نهاية العصر الكلاسيكي.
وقد تأثر كتّاب
المسرح الكلاسيكي تأثرا واضحا بالقواعد الفنية التي صاغها شُراح أرسطو من
الإيطاليين والفرنسيين على السواء، وقد رأينا كيف كان هؤلاء الشُراح أكثر صرامة من
أرسطو، وأنهم استنبطوا من القواعد ما لم يقل به أرسطو؛ ومن ثم فلم يكن غريبا أن
يخالف كتّاب المسرح بعض هذه القواعد التي وضعها الشراح، على الرغم من احترامهم
النظري الشديد لها، وأن يخرجوا عن بعض قواعد المأساة الأرسطية، التي كانت مستمدة
من طبيعة الظروف الإغريقية التي كتبت فيها المسرحيات، التي استمد منها أرسطو
قواعده ونظريته الأدبية، لاختلاف المناخ الديني والثقافي والفكري في العصر
الإغريقي عنه في عصر النهضة. ونتيجة لهذا كله خالفت المأساة الكلاسيكية في بعض
جوانبها قواعد المأساة الأرسطية.
أوجه الخلاف بين
المسرحيتين (الكلاسيكية والأرسطية):
1 ١– عدم التزام الكلاسيكيين بما ذهب إليه
أرسطو من استبعاد شخصيات الأخيار والأشرار من مجال المأساة، فقد كان يُقصي المعلم
الأول البطل الخير، والبطل الشرير من المأساة، ويحصر بطل المأساة في منزلة بين
المنزلتين، يرتكب خطأ (هامارتيا) لا عن لؤم وخساسة. لكن الكلاسيكيين لم يكونوا
يرون بأسا من أن يكون أبطال مسرحياتهم أخيارا خُلّصا يتعرضون لاضطهاد ظالم
استبدادي، بشرط أن يثيروا من الرحمة أكثر مما يثيرون من الغضب والاشمئزاز ممن
اضطهدوهم؛ كما لم يروا بأسا في أن يكون بعض الأبطال أشرارا؛ لأن عقابهم الرادع
نتيجة لشرورهم يؤدي إلى تطهير بعض النقائص الإنسانية عن طريق المأساة الإرادية
الواعية، وإثارة الخوف من البطل، والرحمة على ضحاياه.
٢– (التبعة) أو مسئولية الشخصية المسرحية عن أفعالها في المسرحية
الكلاسيكية أصبحت (تبعة فردية) يتحملها البطل نتيجة لسلوكه الخاص، أو ارتكابه عملا
واعيا مقصودا، يأتيه بكامل إرادته، بعد أن كانت (التبعة) في المأساة الأرسطية قدرا
محتوما على البطل([33])،
لا يد له في دفعه، وبعد أن كان أرسطو يؤثر أن يكون الخطأ الذي يرتكبه البطل غير
مقصود.
٣– وثمة خلاف آخر
يترتب على الخلاف السابق، وهو (تغير طبيعة الصرع)، فبعد أن كان في المأساة
الإغريقية صراعا خارجيا، يتم بين البطل وبين قوة أخرى خارجية، أصبح في المأساة
الكلاسيكية الجديدة صراعا داخلياً، يتم داخل البطل بين العاطفة والواجب، أو بين
نوازعه المختلفة المتعارضة بشكل عام، وينعكس هذا الصراع على سلوك البطل الخارجي
وتصرفاته.
٤–
لم تعد الأساطير المصدر الذي تستمد منه المسرحيات الكلاسيكية موضوعاتها كما كان
الشأن في المسرحية الإغريقية، حيث لجأ الكلاسيكيون إلى التاريخ، يستمدون منه
موضوعات مآسيهم، وحتى عندما كانوا يستمدون موضوعاتهم من الأساطير الإغريقية
القديمة، فإنهم كانوا يجردونها من مضمونها الأسطوري، ومن عنصر الخوارق فيها،
ويتحول أبطال هذه الأساطير – في المآسي الكلاسيكية – إلى أبطال من البشر العاديين.
ولكن أبطال المسرحيات الكلاسيكية، سواء أكانوا من أصل أسطوري أم تاريخي كانوا
دائما من طبقة الحكام والأمراء والنبلاء، مع ملاحظة أن الكلاسيكيين لم يستمدوا
شخصياتهم من الواقع المعاصر لهم([34]).
٥– حدث بالإضافة إلى هذا كله بعض التغييرات في (تقنيات) المأساة
الكلاسيكية فاختفى مثلا "الكورس" الذي كان يؤدي وظيفة أساسية في
المسرحية الإغريقية، كأن يعلق على الأحداث، أو يروي الأحداث التي تقع
خارج المسرح، أو يكشف عما يعتمل في صدر الأبطال من نوازع وخواطر؛ وقد
استبدلت بالكورس في المأساة الإغريقية بعض الوسائل الفنية الأخرى كشخصيات الخدم
وغيرها من تلك الشخصيات التي لا تؤدي دورا إيجابيا في المسرحية، وتقتصر وظيفتها
على التعليق على بعض الأحداث، والإصغاء إلى ما يفضي إليها الأبطال من خواطر وأسرار([35]).
6- بعض المآسي الكلاسيكية بدأت تحمل بعض ملامح الملهاة، كالمأساة
اللاهية، وفي نفس الوقت بدأت بعض الملاهي تحمل بعض ملامح المأساة وقد صحب هذا الخلط
بين "المأساة" و"الملهاة" نوع من النقد الذي يدعو إلى أن تكون
المسرحية صورة للواقع، بكل ما تمتزج فيه من جد وهزل، وإلى أن تستمد المسرحيات
موضوعاتها من الواقع المعاصر لا من التاريخ والأساطير([36]).
ونتيجة لكل هذه
التغيرات ابتدأت المأساة الكلاسيكية تتلاشى، لتنشأ على أنقاضها "الدراما
الرومانتيكية" التي كانت بداية لنشأة "الدراما الحديثة" التي تستمد
موضوعاتها من الواقع، وأبطالها من الشخصيات العادية، وليست مقصورة على طبقة الملوك
والنبلاء كما كان الحال في المسرحية الكلاسيكية.
المسرح الشعري العربي
أحمد
شوقي
رائد
المسرح
الشعري
العربي
عرف
أدبنا العربي الحديث "المسرح الشعري" على يد أحمد شوقي؛ فله فضل السبق
والريادة والابتداع؛ وهو – بعمله هذا – قد أوجد ما يصح أن نسميه حقا في أدبنا
العربي المعاصر "بالشعر التمثيلي". وقد سار على دربه شعراء كبار من
أمثال: عزيز أباظة، وعلي أحمد باكثير، وعبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور،
وغيرهم.
وقد أثبتت الدراسات التى تناولت فن شوقي المسرحي أنه بدأ
كتابته المسرحية منذ فترة مبكرة من حياته، وهو لا يزال يطلب العلم فى فرنسا أواخر
القرن التاسع عشر، وأنه قد كتب مسرحية أسماها "على بك الكبير" ولكن
الظروف فى مصر حالت دون إذاعتها وتمثيلها؛ وأنه اطلع على المسرح الغربي، وعرف
أصوله وتقاليده؛ وكان يتردد كثيرا على دُور المسرح ويغشاها ليشاهد فنون المسرح إذ
ذاك.
ومن المعروف أنه بعد أن وصل بالشعر الغنائي إلى القمة،
وتوج أميرا للشعراء 1927 اتجه إلى ميدان آخر تجلى فيه نبوغه وعبقريته أيضا ألا وهو
"المسرح الشعري" وكان الجو خاليا إلا من محاولات ضعيفة، وكانت العامية
تطغى على المسرح المصري، ولم تكن تمثل عليه مسرحيات حقيقية، إنما كانت تمثل عليه
حكايات مضحكة على نحو ما هو معروف عن "كشكش" و"الكسار" ومن
قبلهما كان الشيخ سلامة حجازي، وكان مسرحه إلى الغناء والتلحين أقرب منه إلى
التشخيص والتمثيل.
فلما طلع شوقي فى أواخر حياته على الناس بمسرحياته
الفصيحة، عدّوا ذلك منه عملا بديعا، وخاصة أنه كان يتبع سنن المسرحيات الأوربية،
ومع ذلك فقد صب عليه بعض النقاد وفى مقدمتهم عباس العقاد جام غضبهم وسخطهم،لأنهم
رأوه لا يتبع هذه السنن اتباعا دقيقا.
وقد قدّم شوقي إلى المسرح سبع مسرحيات ست مآس، وملهاة
واحدة. وثلاث من هذه المآسي تسترضى العاطفة الوطنية فى المصريين وهى : مصرع كليو
باترا،وقمبيز، وعلى بك الكبير؛ وثلاث أخرى تسترضى العواطف العربية والإسلامية وهي
: مجنون ليلى، وعنترة، وأميرة الأندلس أما الملهاة فتقوم على موضوع مصري شعبي وهي
: الست هدى.
من هنا فإن المتأمل لمسرحنا – في أدبنا
الحديث – ليلحظ أنه لم يخل من هذا النوع من الصراع الذي وجد في غيره من الآداب؛
"فالاتجاهات الوطنية والقومية كانت غاية شوقي في مسرحياته التاريخية: كمسرحية
(مجنون ليلى)، و(قمبيز)، و (مصرع كليوباترا)، و(أميرة الأندلس)، على طريقة
الرومانتيكيين في الهدف، مع مزج للمذاهب الأدبية المختلفة من الناحية الفنية([37]).
وقد
توقف كثير من النقاد بالدرس والتحليل لمسرح شوقي، وتناولوه من جوانبه المتعددة،
نذكر منهم – على سبيل المثال لا الحصر – د. محمد غنيمي هلال، ود. محمد مندور، ود.
شوقي ضيف.
بعض القضايا المتصلة بمسرحيات شوقي
التاريخية.
١–
أول هذه القضايا تتمثل في "الغاية" التي كان يقصد إليها شوقي من
تأليفه لهذه المسرحيات، وهل نجح في تحقيق ما كان يهدف إليه.
٢
ـ-
القضية الأخرى وتتصل بالجانب الدرامي،
وإلى أي مدى تحقق بعناصره المختلفة في تلك المسرحيات.
وفيما
يتصل بالقضية الأولى، فقد لاحظ الدارسون([38])
أن شوقي كان يهدف من خلال مسرحياته التاريخية إلى: إيقاظ وعي وطنه وأمته العربية،
ببث الإحساس في النفوس بما تعانيه هذه الأمة وذلك الوطن من تخلف، وقهر، وضعف،
وهوان من جراء الأوضاع الجائرة التي كانت تحيط بهم؛ وبهذا يزداد الوعي ويعمق
لمواجهتها والقضاء عليها "فقد عاش شوقي في فترة احتلال لمصر والبلاد العربية،
وطغيان لنشاط أجنبي في داخل البلاد، وإقرار امتيازات للدخلاء على أهل الوطن، مع
تحكم جبروت الفرد في حقوق الشعب، واغتصاب أسرة ملكية طاغية لتلك الحقوق – وقلّ من
الشعراء من معاصريه من ضاق كضيقه هو بمأساة الشعب في مستواها السياسي الأعلى؛ بل لنا أن نقول: إن الوعي
الاجتماعي – في قضاياه المثلى المتعلقة بالوطن ومشكلاته – قلما عهد من الشعر
العربي قبل شوقي مثل هذا التصوير المشبوب، في عمقه البعيد، وفي سعة مداه.... وإذا
كان شوقي لم يتغنّ ببؤس العيش في صوره الدنيا، من ضيق ذات اليد، والعوز والعدم،
وما إليها من مشاعر ذاتية، عاناها البائسون الفقراء من الشعراء – فقد أحسَّ
إحساسا، لم يدانه أحد فيه، بالقضايا الاجتماعية لعصره، وبأمراض مجتمعه المعوقة له
عن مسايرة ركب الحضارة العالمي، وبتخلف الوعي الشعبي في الأزمات الكبرى([39])".
لماذا
تناول
أحمد
شوقي
فترات
الضعف
التاريخية؟
ومن
هنا، فقد رأى شوقي أن يتناول في مسرحياته فترات الضعف التاريخية. وإنما اختار هذه
الفترات ليصور فيها واقع عصره. وقد سئل هو عن سبب اختياره لمثل هذه الفترات،
فأجاب: لأنها تشبه ما نجتازه من فترة. وفي قوله هذا ما يدعم وجهة النظر هذه التي
ترى في أن قصده من تلك المسرحيات أن يؤكد القضايا الاجتماعية التي طالما تغنى بها
في شعره الغنائي؛ فضلا عن أن يبث فيها بعض الآراء الجريئة التي لم يكن يتيسر له
الإفضاء بها صراحة في الشعر الغنائي([40]).
ومن
أبرز هذه القضايا تصوير أوجه القصور التي تحول بين الشعب وتحقيق ما يطمح إليه،
سواء تمثل ذلك في قصور وعي الشعب أولا – وتلك قضية شوقي التي لم يكن يمل من
ترديدها، وهي قضية عصره([41])؛
أم تمثل في فساد الخلق الاجتماعي، وفي فساد الحاكم، لا رادع له من الشعب؛
وفي سيطرة المتوانين على القلة العاملين المجدين([42]).
ونتوقف وقفة قصيرة
عند مسرحيته "مصرع كليوباترا" لنرى كيف أن هذه القضايا الوطنية وغيرها
مما يشبهها كانت هدف شوقي الرئيسي.
مع
أن عاطفة الحب بين أنطونيوس وكليوباترا
كانت محور الأحداث الكبرى في المسرحيات الأجنبية، فقد اتخذ كتّاب الغرب من
الصراع بين هذين المحبين وبين أوكتافيوس رمزا للصراع الدائم بين الشرق والغرب،
وحمّلوا كليوباترا أوزار هذا الصراع؛ فصوروها ماكرة محتالة، تتخذ الخديعة سبيلا
لنيل مأربها، وقد أوقعت في شراكها أنطونيوس، فأغوته بعد رشد. وهي – بعد – مستهترة
بملذاتها، لا همّ لها سواها، والغاية عندها تبرر الوسيلة. وأعجب من ذلك أنهم عدوها
نموذج العقلية الشرقية، بوصفها مصرية؛ فظلمهم مصر – في تحاملهم – يكشف عن نوع من
الصراع بين الشرق والغرب([43]).
وتجاه
هذا اتخذ شوقي – في مسرحيته – موقف الدفاع، واتهم جميع من كتبوا عنها بسوء القصد،
وحاول أن ينصفها، لا بوصفها ملكة فحسب، بل بوصفها مصرية كذلك.
ومن
هنا فقد صور كليوباترا وطنية مخلصة، تقدم حبها لوطنها على إخلاصها لحبيبها، فلم
تفرّ من موقعة "أكتيوم" عذرا أو خوفا، كما رميت بذلك في المسرحيات
الغربية، ولكنها انسحبت نتيجة لخطة مرسومة هي: أن تدع أنطونيوس وأكتافيوس في الحرب
دون تدخل منها، كي يضعف كل منهما الآخر، حتى تظل هي قوية في وجه المنتصر منهما.
وكانت
تحتاط بذلك لنفسها ووطنها حتى من أنطونيوس نفسه.
|
|
|
|
كما أبرز في تصويره الشعب في ضعفه وتخاذله
وقصور وعيه، على الرغم من عناصر السخط عند بعض أفراده، من أمثال "ديون"
و"حابي" و"ليسياس([44])"
فهؤلاء يضيقون بانخداع الشعب، وانصياعه للحاكم المستبد.
ولم يكن شوقي حين عاب على
الشعب تخاذله وانصياعه يقصد التعالي عليه، أو الحط من شأنه: إنما كان يعيب عليه
تقاعسه عن أداء رسالته، وهو في ذلك يصف مفاسد حكام عصره، وينبّه الوعي – بطريق غير
مباشر، منتهجا نهج المسرحيات الغربية – إلى اتخاذ موقف إيجابي من الأحداث المعاصرة
مهما كلف الشعب ذلك الموقف من تضحية([45]).
القضية
الثانية:الجانب الدرامي
وفيما
يتصل "بالجانب الدرامي" في مسرحيات شوقي فقد أثار كثيرا من الجدل.
وليس
من شك في أن عنصر "الدراما" هو العنصر الجوهري الذي يقوم عليه المسرح
بوجه عام، سواء أكان شعرا أم نثرا، كما أن "مسرح شوقي" يقوم في هيكله
الفني العام على النمط الغربي، من حيث إنه يتناول في كل مسرحية موضوعا يعرضه
بواسطة شخصيات تتحرك وتتحاور على خشبة المسرح، ويتطور الموضوع بتطور الأحداث إلى
أن يصل إلى أزمة، ثم ينتهي بحل تلك الأزمة على نحو ما، مع الاختلاف – بالطبع – في
الروح التي يتناول بها الأديب هذا الموضوع، وأنواع الأفكار والأحاسيس والاتجاهات
الأخلاقية؛ بالإضافة إلى أسلوب المعالجة، وطريقة التناول، ووسائلها العقلية
والجمالية، بحكم الضرورة والتراث والموروث والتركيبات النفسية الشرقية العربية([46]).
من
هنا، فإن شوقي قد بنى مآسيه – في جملتها – على أزمة تتصارع فيها قوى نفسية
وأخلاقية متعارضة كما هو معروف في المسرح الكلاسيكي، وإن ظل هذا
"الصراع" سطحيا لا يتعمق أغوار النفس البشرية، ولا يشق الحجب عن خفايا
العقل الباطن، وعمل الغرائز وشهوات النفس ونزواتها الدفينة([47]).
ولعل
مرد هذه السطحية إلى ما ذهب إليه كثير من النقاد من الضعف البناء الفني العام في
مسرحياته.
وقد
تجلى هذا "الضعف الفني" العام في البناء في مظاهر عدة، أهمها:
- عدم تعمق ذلك
"الصراع" الذي تبنى عليه المسرحية،
-
وجود عناصر أخرى دخيلة على عنصر الدراما؛ مثل:"مشاهد
قصصية ووصفية" لا نتبين علاقتها بعناصر الدراما. و"الغناء".
وذلك أن شوقي قد وضع مسرحياته لكي تمثل لالكي تغني، ولكننا وجدناه يعمد إلى هذا
المزج بين التمثيل الخالص والغناء،"فمسرحياته تكثر فيها المواقف التي يُقْطَع
فيها الحوار، حتى تُعْطي الفرصة للموسيقى والتلحين..
وهذا الجانب "الغنائي" أصاب "الحوار" بكثير من التراخي
والفتور. الشخوص عامة. النفسيّ عمقا، أو الحدث المسرحي تقدما إلى الأمام، فلا ركود
في لغة المسرح([48])".
صلاح
عبدالصبور مطور
المسرح
الشعري
وكان لصلاح عبد الصبور الفضل في تطوير
هذا الجنس الأدبي؛ "فقد نضجت على يديه المسرحية الاجتماعية الناقدة، وتقدمت
المسرحية السياسية خطوات، وحاول أن يقدم مسرحا عربيا أصيلا، يعتمد على التراث،
ويفيد من المأثورات الشعبية صيغة ومضمونا"([49]).
ويبدو
أن تلك المرحلة التي مر بها هذا الفن الشعري، وما صحبها من محاولات على مستوى
الإبداع والنقد دفعت بصلاح عبد الصبور إلى أن يقوم بهذا الدور الذي نتحدث عنه
الآن، وهيأته لتلك المكانة التي تبوأها في هذا المجال.
ومن
هنا "فحينما دخل صلاح عبد الصبور ساحة المسرح الشعري، كان عليه أن يصل بالشعر
الدرامي إلى نهايته الحتمية: الدراما الشعرية، تخلصا من عبء الخطابية والغنائية
والترهل، في اتجاه التكثيف الدرامي. وقد لعبت إنجازاته الشعرية – على مستوى
القصيدة - دور قاعدة انطلاق؛
1- فالقصيدة – لديه – تحمل وجها دراميا لا
تخطئه العين العابرة، ابتداء من (رحلة في الليل)،
ومرورا بـ (مذكرات بشر الصوفي الحافي) و(مذكرات الملك عجيب ابن الخطيب)،
٢–
وكانت الرؤية المركبة للعالم – عند صلاح عبد الصبور - عاملا رئيسيا في دفع القصيدة
صوب التركيبية، متجاوزة مظاهر السطحية التي وقف عندها أسلافه(
3- يضاف إلى هذا أن المناخ الثقافي
المسرحي "قد اتسع (آنذاك) لكل الاتجاهات الفكرية والفنية، لتحقق الحوار
الخلّاق الذي لم تتسع له الساحة السياسية، واندفعت هذه الاتجاهات تضرب في الآفاق
الممدودة، والأعماق الدفينة، متحاورة مع التراث العالمي والعربي، ليتفجر المسرح
المصري عن فرافيره، وعبثييه، وسامره القروى، وأبطاله المأساويين، الباحثين عن
الخلاص الفردي والاجتماعي([50])".
٤– وكان أن ترادف نهوض المسرح بنهوض نقدي
مضيء، أسهم في إرساء "التقاليد" المسرحية في الكتابة والنقد
والمشاهدة والبحث عن الجذور. وامتدت ساحة النقد المسرحي لتتسع لكل التيارات في
حوارها المضيء، خالقة مناخا من الصراع الفكري الذي يحدد التخوم، ويكشف الآفاق
المجهولة([51])،
وكان صلاح عبد الصبور أحد فرسان هذه المرحلة.
المراحل
التي
مرت
بها
أعمال
صلاح
عبد
الصبور
المسرحية
وتكشف
الدراسات عن أن أعماله المسرحية تعبر عن مرحلتين رئيسيتين في سياق تطوره الفكري
والفني؛ إذ تضم أعمال المرحلة الأولى: "مأساة الحلاج"، و"مسافر
ليل" و"الأميرة تنتظر"، و "ليلى والمجنون" على حين تشكل
مسرحيته "بعد أن يموت الملك" مرحلة بأكملها، وتعبر عن الصرخة الأخيرة
لجيل الستينات المسرحي. لكن هاتين المرحلتين ترتبطان معا بالمناخ السائد في
أعماله: مناخ البحث عن الحرية والحب والعدل في مواجهة البطش والقهر([52]).
المسرح
النثري
العربي
ورائده
توفيق
الحكيم
وقد
تزامن مع ذلك ظهور "المسرح النثري" حيث وجدناه ينمو ويزدهر ويغزر إنتاجه
ويعمق بتفاعله مع تلك التيارات الفكرية والاتجاهات الأدبية المشار إليها سابقا؛
وقد أثمر هذا كله نهضة مسرحية حقيقية يشهد بها ذلك النتاج الضخم على المستويين
الإبداعي والنقدي.
وفارس
هذا الميدان بلا منازع هو: توفيق الحكيم الذي أثرى المكتبة العربية بنتاج غزير،
يمكن عند رصده ودراسته أن يبرز حال المسرح عندنا، ومدى التطور الذي لحقه آنذاك.
والدارس
لسيرة توفيق الحكيم يلمس شغفه بالفنون الأدبية وبخاصة فن المسرح منذ فترة مبكرة من
حياته على الرغم من العقبات التي واجهته، وكفاحه في التغلب عليها.
ويكفي
أن نتوقف عند مرحلتين من حياته لنرى كيف أن أسرته كانت تحرص على تنشئته التنشئة
العلمية التي تؤهله للعمل في السلك القضائي – حيث يتبع خطوات أبيه – ولكنه كان
يتجه اتجاها آخر. المرحلة الأولى: حين ألحق بعد إتمام تعليمه العام بمدرسة الحقوق
وحصل على ليسانس الحقوق في سنة 1924. في هذه المرحلة انتهز فرصة تحرره من رقابة
أسرته القاسية بانتقاله إلى القاهرة – حيث توجد مدرسة الحقوق – واشترك مع زملائه
الطلبة في الحركة الوطنية الكبيرة التي شبت في مصر سنة 1919، مطالبة بإلغاء
الحماية البريطانية على مصر، وإعلان استقلالها، وتقرير الحكم النيابي الديمقراطي
فيها، وقد صوّر توفيق الحكيم هذه المرحلة من حياته وحياة جيله في قصته الكبيرة
"عودة الروح" سنة 1933.
ومع
ذلك فإن "القصة" لم تكن الفن الأدبي الذي استهوى توفيق الحكيم في تلك
الفترة المبكرة، بل كانت المسرحية التي أخذ يكتبها منذ سنة 1918، وكان الاتجاه
الأدبي عندئذ وفي ظل الروح الوطنية يدعو إلى ربط الأدب بالحياة ومشاكلها الراهنة،
أو الترويح عن الجمهور من هموم العصر([53]).
المرحلة
الثانية: بعد أن نال ليسانس الحقوق، وفزعت أسرته من ولعه الشديد ببيئة المسرح
المصري، ومخالطته لأهلها عن قرب، وكانت تشارك البيئة المصرية المحافظة في نظرتها
المرتابة إلى المسرح وأهله، حينئذ لم ير الوالدان خيرا لابنهما من أن يبعداه عن
هذا الوسط، بل عن مصر كلها، بإرساله لباريس لمواصلة دراسة القانون بجامعتها
والحصول على درجة الدكتوراه. ولكن توفيق الحكيم خيب ظن والديه هذه المرة أيضا،
وبدلا من أن يدرس القانون انصرف إلى الأدب والمسرح، وخالط الأوساط الأدبية والفنية
في باريس، على نحو ما نطالع في الكتابين الذين سجل فيهما ذكريات تلك الفترة الخصبة
من حياته، وهما : "عصفور من الشرق"، و"زهرة العمر".
وفي
هذه الفترة اتصل عن قرب بفنون الأدب العالمية، وبخاصة الأدب الفرنسي، فساقه طموحه
الأدبي المستيقظ نحو الارتفاع بأدبه عن مستوى الملابسات السياسية والاجتماعية
العارضة، وعن مطالب جمهوره العاجلة، لكي يتجه نحو الأدب الإنساني العام الذي تمثل
في (مسرحياته الذهنية) التي تعتبر نقطة الانطلاق في مجده الأدبي([54]).
وعلى
أية حال. فإن نظرة متأنية إلى إنتاج توفيق الحكيم المسرحي، وخوضه لاتجاهات كثيرة
ومتعددة، وما صحب ذلك أو أعقبه من نشاط نقدي؛
فضلا عن تنظيراته الدائمة في محاولة للبحث عن مسرح مصري متطور ومعاصر، ومحاولاته
طرح رؤاه بشكل فلسفي، تلقي الضوء على منهجه في الحياة وفي الفن كل هذا يضع توفيق
الحكيم في موقع الريادة على مدى قرن كامل أو يزيد؛ فقد جاء إلى العالم في أخريات
القرن التاسع عشر، وظل يشغلنا بمعاركه وقضاياه الفنية والأدبية والفكرية التي يصوغ
بها عقولنا ووجداننا، حتى رحل عنا في نهاية القرن العشرين (1987)، وما يزال إنتاجه
الفكري يشغلنا ونحن في القرن الحادي والعشرين([55]).
لم
نُرد من هذا الكلام السابق إلا أن نشير إلى أن الحركة المسرحية في مصر كانت فتية،
سخية بالعطاء، تموج ساحتها بكثير من الأقلام الجادة، وقد عبرت – بصدق وإخلاص – عن
تلك الحياة الزاخرة الحافلة بكل ألوان الصراع
على أرض هذا الوطن؛ سعيا منها إلى الأخذ بيده (الوطن) – وكان يشغل منها
موقع القلب والعقل – إلى أن يحتل مكانه اللائق به تحت الشمس.
بقى أن نتوقف وقفة قصيرة عند توفيق الحكيم
"لنلقي الضوء على إبداعه المسرحي من منظور معالجته لقضايا عصره، واستحداثه
أشكالا درامية جديدة، وإبداعاته فيها.
وفي
البداية نود أن نشير إلى أننا لا نفي الرجل حقه بهذه الوقفة المتعجلة؛ فالحكيم الذي
أثرى حياتنا الثقافية والأدبية على الساحة المصرية والعربية، وقام بدور ريادي في
مجالات أدبية مختلفة عبر مساحة زمنية كبيرة، تمتد إلى سبعين عاما، منذ أن كتب
مسرحيته الأولى (الضيف الثقيل) عام 1919، حتى كتب (شجرة الحكم السياسي) عام 1985 وحتى رحل عنا عام 1987 ([56])–
لا تفي به مثل هذه الدراسة؛ وبحسبها أن تعيده – في إبداعه المسرحي – إلى الدرس
الأدبي والنقدي، في وقت قلّ فيه الحديث عن أمثال هؤلاء الرواد من المثقفين؛ وذلك
يلفت الأذهان إلى ذلك الدور الريادي في عظمه وتنوعه وغناه وعمقه.
وترجع
أهمية توفيق الحكيم التاريخية الريادية إلى أن إنتاجه الأدبي يمثل:
أولا: أكبر إنتاج
أدبي في تاريخ الكتاب المصريين والعرب؛ فقد كتب المسرحية الطويلة والقصيرة، والرواية، والقصة، والمقالة،
والخواطر، وما أسماه بالمرواية، والأفكار الفلسفية، والأشعار، والتنظير لمسرح
جديد، وغير ذلك.
ثانيا: كان (الحكيم)
هو أول من كتب رواية بالمعنى الحديث، وهي "عودة الروح" (صدرت عام 1933)،
وإن كانت هناك محاولات سابقة، تمثلت في (زينب) لمحمد حسين هيكل (صدرت عام 1912)،
ولكنها لم ترق إلى مستوى رواية الحكيم.
ثالثا: يعتبر توفيق
الحكيم في مجال المسرح أول من كتب([57])
(تراجيديا) مصرية بالمعنى الحديث (مأساة)، وهي أهل الكهف (عام 1933).
رابعا: هو أول من
حاول من المسرحين المصريين والعرب وضع مفهومه عن الفلسفة والفن والحياة في كتاب
(التعادلية) الذي صدر عام 1955.
خامسا: ترجع أهمية
توفيق الحكيم أيضا إلى محاولاته في البحث عن مسرح مصري جديد، كما ظهر في كتابه
"قالبنا المسرحي" الذي نشر في عام 1967، وإن كان قد حاول تطبيق ذلك من
قبل في مسرحيته (الصفقة) – (صدرت عام 1956)، كما حاول في هذه المسرحية أيضا إيجاد
لغة للمسرح أسماها بـ (اللغة الثالثة).
سادسا: توضع مسرحيته
(السلطان الحائر) – (صدرت عام 1960) في مقدمة المسرحيات المصرية؛ حيث يصل فيها
الحكيم إلى أكبر قدراته التقنية والإبداعية، وتعتبر مثلا يحتذى به في الكتابة
الإبداعية.
سابعا: فتح توفيق
الحكيم بمسرحيته (يا طالع الشجرة) – (صدرت عام 1962) الطريق إلى مسرح
"العبث" في المسرح المصري والعربي؛ وقد كتب في مقدمتها مفهومه الخاص في
مسرح "العبث" الأوروبي، ومسرح "العبث" المصري كما يتصورهما.
ثامنا: تتنوع كتابات
توفيق الحكيم في المسرح في مجالات متعددة، فالكوميديا، والتراجيديا، والأوبريت،
والمسرح الفكري، والاجتماعي، والعبثي.... الخ([58]).
ويهمنا
هنا ونحن نتحدث عن "مسرح توفيق الحكيم" في تطوره وتنوعه وتعبيره عن
قضايا مجتمعه في عصره – أن نشير إلى جانب مهم، ربما نفتقده عند غيره من كتّاب
المسرح، ويتمثل في "تنظيراته الفلسفية التي صاغت فكره ووعيه، وشكلت حركته
وأعماله"، إذ "هي التي شكلّت تنظيراته للمسرح، وصاغت إبداعاته الفنية([59])".
هذا؛
وقد أراح توفيق الحكيم القراء والدارسين بجمع كل مسرحياته في مجلدين كبيرين، صدر
أحدهما باسم "مسرح المجتمع" وصدر الآخر باسم "المسرح المنوع"
وهما يضمان جميع مسرحياته، ولم يبق من تأليفه المسرحي خارج هذين المجلدين إلا مسرحياته
الكبيرة، وأغلبها من "النوع الذهني" التي نشر كلاً منها في كتاب خاص([60]).
الفصحى والعامية في المسرحية
من
المسائل التي كثر فيها الجدال بين كتّابنا ونقادنا "لغة الحوار" في
المسرحية – وكذا في القصة : أيكون بالفصحى أم بالعامية؟
وقد
كان د. محمد غنيمي هلال([61])
و د. محمد مندور([62])
من أبرز من تناولوا هذه القضية في جوانبها المختلفة، وأسهموا فيها بنصيب وافر من
النقاش وإبداء الرأي.
ويمكن رصد أسباب
إثارة هذه القضية في الأمور الآتية:
- الفرق الشاسع بين الفصحى والعامية في
لغتنا.
- ما يتصوره البعض بأن
"العامية" قد تكون أقدر على تصوير بعض الحالات النفسية، أو على التعبير
عن الدلالات الاجتماعية، أو ما يسمونه: "واقعية الأداء"([64]).
وقد
تصور البعض أن هناك صراعا بين "الفصحى" و "العامية" على أن
المتأمل يجد ألا صراع بينهما؛ فلمن شاء من الكتّاب أن يختار جمهوره. وفي الأمم
جميعا – منذ القديم – يعيش الأدب الفصيح مع الأدب الشعبي جنبا إلى جنب، فلا ينبغي
بحال أن نفاضل بين الفصحى والعامية لنحتِّم إحداهما دون الأخرى، بل يجب أن نترك
لكل منهما مجاله الطبيعي ليسير فيه ما شاء، شأن الآداب الكبرى([65]).
والربط
بين "العامية" وقدرتها على
التعبير عن الواقع، أو ما يسمى "واقعية الأداء" ربط غير صحيح؛
"ذلك أن الفرق شاسع بين معنى الواقعية الفني وواقعية اللغة. والخلط بينهما لا
يصدر إلا عن قصور شنيع في فهم الواقعية.... ولابد في عالم الأدب من الاختيار
والتعمق، لا الاقتصار على نقل الواقع... وقد بينا من قبل رأى الواقعيين في لغة
الأداء الفني.... وعرفنا كيف يحبذ كثير منهم استعمال الشعر نفسه في المسرحيات
الواقعية([66])".
"على
أنه لا نزاع في أن اللغة الفصحى أقدر وأثرى في تنويع الدلالات وتعميقها من اللغة
العامية المحدودة في مفرداتها، والمتصلة بالوقائع والمحسَّات، في حين تعجز عن
المعاني العالية والأفكار والخواطر الدقيقة، وفي سبيل ذلك لا يصح أن نراعي التيسير
على عامة الجمهور، بل يجب أن نرقى
بإمكانياته، وبخاصة في أدبنا... فنحن في أشد الحاجة إلى تزويد الفصحى في هذه
المجالات، كي يصبح أدبها موضوع دراسة، ولئلا نحرم الجمهور تغذية فكره وإمكانياته،
وبخاصة في أدبنا... فنحن في أشد الحاجة إلى تزويد الفصحى في هذه المجالات، كي يصبح
أدبها موضوع دراسة، ولئلا نحرم الجمهور تغذية فكره وإمكانياته الفني فيما تقصّر
فيه العامية"([67]).
والخطر الفني الحقيقي هو مجافاة
المسرحية – أو القصة – للغة الواقع في المضمون والموقف، لا في لغة الأداء، فلا
ضير أن يحاور صبيّ أو عامي باللغة العربية – على ألا يكون فيها تكلّف أو فيهقة –
ولكن الضرر كل الضرر أن يُجري الكاتب على لسان صبي أو عامي آراء فلسفية أو أفكارا
اجتماعية، أو صورا عميقة لا يبررها الواقع، ولا تتصل بالموقف([68]).
وفي
محاولة للخروج من هذا المأزق قدّم لنا توفيق الحكيم تجربة في مسرحيته
"السابقة" "الصفقة" بعد أن رأى كثرة الجدل والخلاف حول
مسألة "اللغة" التي يجب استخدامها في المسرحية المحلية. وتتمثل هذه
التجربة في "إيجاد لغة صحيحة لا تجافي قواعد الفصحى، وهي – في نفس الوقت –
مما يمكن أن ينطق الأشخاص، ولا ينافي طبيعتهم ولا جو حياتهم. لغة سليمة يفهمها كل
جيل وكل قطر وكل إقليم يمكن أن تجري على الألسنة في محيطها، تلك هي لغة هذه
المسرحية. قد يبدو لأول وهلة لقارئها أنها مكتوبة بالعامية، ولكنه إذا أعاد
قراءتها، طبقا لقواعد الفصحى، فإنه يجدها منطبقة على قدر الإمكان"
ويعلق
د. محمد غنيمي هلال على هذه التجربة وأصحابها من دعاة اللغة الوسطى، بأنه لابد لهم
في هذه الحال من إغفال الدلالات الجمالية للتراكيب ذلك أن تراكيب اللغة الفصيحة
مرنة، بسبب وجود الإعراب فيها... وفي هذه المرونة تتمثل أكثر الخصائص الجمالية...
وقد دلت التجربة العملية أنها تقرأ بالعامية لا بالعربية (أي الفصحى) ([69]).
بعض الأسئلة الموضوعية
ـ أحمد شوقي وصلاح عبدالصبور وتوفيق الحكيم من
كتاب المسرح الشعري. (خطأ)
ـ يعد توفيق الحكيم أول من كتب تراجيديا مصرية
بالمعنى الحديث وذلك في مسرحيته" السلطان الحائر" (خطأ)
ـ فتحت مسرحية"يا طالع الشجرة" الطريق إلى
مسرح العبث في المسرح المصري
والعربي. (صواب)
ـ مما يحمد لشوقي تعميق الصراع في
مسرحياته. (خطأ)
ـ يؤخذ على طه حسين في دعاء الكروان تكلف الحيلة الي
طردت بها آمنة من بيت مخدومها. (صواب)
ـ أخذ على مسرح شوقي وجود عناصر دخيلة على عنصر
الدراما. (صواب)
للأغنية الشعبية التي كانت تغنيها هنادي مغزى رمزي في الرواية. (صواب)
- كان لقاء أسرة هنادي بزنوبة مقدمة لدورها الذي
ستقوم به مع آمنة فيما بعد. (صواب
- يرى طه حسين في (دعاء الكروان) أن العلم طريق إلى الحب النظيف
الراقي. (صواب)
كان قتل هنادي
الفصل الأخير في رواية "دعاء الكروان". (خطأ)
من أكثر المشاهد التي فجرت الإحساس بالشيخوخة والنقمة
لطول العمرفي نفس محمد الرشيدي مشهد وفاة
ابن ابنته الطفل. (صواب)
الحديث عن وفاة ابن بنت محمد الرشيدي لم يكن
مبررا، وليس له أثر في بناء القصة.
(خطأ)
تبرز قصة "القهوة الخالية"
التواصل بين الأجيال؛ وهو ما يخفف عن محمد الرشيدي إحساسه بالفقد. (خطأ)
ابن محمد الرشيدي وزوجه مهتمان جدًا برعاية
ابنهما. (خطأ)
تأثر كتاب المسرح الكلاسيكي تأثرًا واضحًا بالقواعد
الفنية التي صاغها شراح أرسطو.
(صواب)
من أكثر المشاهد التي فجرت الإحساس بالشيخوخة والنقمة
لطول العمرفي نفس محمد الرشيدي مشهد وفاة
ابن ابنته الطفل. (صواب)
ابن محمد الرشيدي وزوجه مهتمان جدًا برعاية ابنهما. (خطأ)
تأثر كتاب المسرح الكلاسيكي تأثرًا واضحًا بالقواعد
الفنية التي صاغها شراح أرسطو.
(صواب)
|
السؤال
|
أ
|
ب
|
ج
|
د
|
|
1)
تتحقق واقعية اللغة في القصة بـ
|
أ ـ المزج بين الفصحى والعامية.
|
ب ـ استخدام العامية في الحوار.
|
ج ـ ملاءمة المستوى الواقعي للشخصية.
|
د ـ مطابقة لغة الواقع.
|
|
2) من أسباب إثارة قضية نوع لغة الحوار في القصة
والمسرحية
|
أ ـ الفرق البسيط بين الفصحى والعامية.
|
ب ـ جهل الجمهور التام بالفصحى.
|
ج - ضعف الفصحى لدى الجمهور.
|
د - عدم ملاءمة الفصحى للقص
|
|
3)
وصل توفيق الحكيم إلى أكبر قدراته
الإبداعية في مسرحية............
|
أ ـ عودة الروح.
|
ب ـ السلطان العاشق
|
ج ـ السلطان الحائر.
|
د ـ يا طالع الشجرة
|
|
4) فضل محمد الرشيدي قهوة متاتيا على مقاهي مصر
الجديدة بسبب....
|
أ
ـ ارتباطها بماضيه.
|
ب
ـ قربها وجمالها.
|
ج
ـ أنها ملتقى أصدقائه.
|
د ـ أنها ملتقى الزعماء.
|
|
5) وجد محمد الرشيدي أنسه في بيت ابنه مع........
|
أ ـ
حفيده الصغير توتو.
|
ب ـ ابنه
وزوج ابنه.
|
ج ـ
مباركة الخادمة.
|
د ـ قطة توتو.
|
|
6)
الكتاب الذي طردت آمنة من بيت
مخدومها بسببه كتاب......
|
أ
ـ ألف ليلة وليلة.
|
ب ـ
مائة عام من العزلة.
|
ج ـ
هدية الكروان.
|
د ـ
دعاء الكروان.
|
(*) من الآيات القرآنية
التى أشارت إلى هذا المعنى قوله تعالى فى سورة يوسف : }يَا
بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن
رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ
الْكَافِرُونَ (87) ، وقوله فى سورة الحِجْر : قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ
فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ
إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56) ؛ وقوله فى سورة الزُّمَر : قُلْ يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
(53) {
([45]) السابق:
نفس الصفحة. هذا؛ ونشير هنا إلى وجهة النظر الأخرى التي يلمح إليها النص السابق،
وتتمثل في أن شوقي عند كتابة هذه المسرحية كان شديد الحرص على أن يحظى بتصفيق
الجماهير المصرية وإعجابها، ولذلك حاول أن يرضى مشاعرها الوطنية ومع ذلك فقد أخطأ
السبيل، إذ ظل يرى في ملوك مصر بؤرة الوطنية ورمزها الأول حتى مع تحرره في الفترة
الأخيرة من حياته من تبعيته للأسرة المالكة. كما أنه صور الشعب سلبيا منساقا، من
السهل تضليله؛ إذ هو كما يقول: "ببغاء عقله في أذنيه"، بل إنه – عند
شوقي – "يصفق لمن شرب الطلا في تاجهم، وأحال عرشهم فراش غرام"، انظر :
د. محمد مندور، مسرحيات شوقي، ص 67 - 69.
([59]) السابق:
ص 15.هذا؛ وتجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسة للدكتور: أحمد سخسوخ طمحت إلى تناول
هذه "التنظيرات الفلسفية" وتأثيرها في " تنظيراته للمسرح"،
وصياغته إبداعاته الفنية، في دراسة منهجية موثقة. والدراسة تتوقف عند كتاب
"التعادلية" الذي طرح فيه توفيق الحكيم رؤاه الفلسفية في منتصف
الخمسينيات، ومقدمة "يا طالع الشجرة" في بداية السيتنات باعتبارها تحمل
فهمه الخاص لمسرح "العبث الأوروبي"، وتنظيره لما يسمى " بالعب
المصري"؛ ثم "قالبنا المسرحي" بعد منتصف الستينيات، الذي ينظر فيه
لتركيبة مسرحية جديدة، باعتبارها نقاطا شكلت الدورات الأساسية في فكر توفيق
الحكيم، وفي إبداعاته الفنية عبر رحلته الطويلة.
([69]) السابق:
ص 626 – 627. ويدعم هذا ما ذكره د. محمد مندور من أنه حين أمعن النظر في طريقة
أداء الممثلين لنص توفيق الحكيم، وفي النص نفسه تبين له أن الممثلين قد أدوها
باللغة العامية. انظر: مسرح توفيق الحكيم
ص 125. وانظر: النموذج الذي قدمه د. مندور ص 124 – 125، ومثله هذه العبارات في مسرحية "الصفقة": "لابد أمر على الأسماء كلها ... وأنا سبق نبهت عليكم إذا تخلف واحد منكم عن الدفع، الصفقة تبطل ... حصل وسبق قلت لنا ...." ولا تخفى ركاكة العبارات وعاميتها. وانظر: د. محمد غنيمي هلال، السابق، هامش ص 627.
ص 125. وانظر: النموذج الذي قدمه د. مندور ص 124 – 125، ومثله هذه العبارات في مسرحية "الصفقة": "لابد أمر على الأسماء كلها ... وأنا سبق نبهت عليكم إذا تخلف واحد منكم عن الدفع، الصفقة تبطل ... حصل وسبق قلت لنا ...." ولا تخفى ركاكة العبارات وعاميتها. وانظر: د. محمد غنيمي هلال، السابق، هامش ص 627.